وقد نشأ عنه في الحقل التشريعي ما يسمى بـ "فقه التوقع" أو "فقه الاستشراف" والحاجة ماسة لإقرار هذا النوع من الفقه، خاصة أنه في ظل المستجدات العلمية السريعة والمتلاحقة أصبح من الضروري الاستعداد لها بأحكام فقهية تساعد وتيسر في معرفة الحكم الشرعي عند حدوث النازلة.
وفقه استشراف المستقبل وإن كان حديثاً في مصطلحه، ولكنه قديم في معناه وقد استخدمه الفقهاء في العصور المختلفة، وظهر ما سمي بـ "المسائل الافتراضية أو التقديرية" الذي اشتهر به أهل الرأي وخاصة الأحناف وهو نوع من أنواع فقه التوقع.
الفقه الافتراضي وحكمه
لقد كان الأئمة -رحمهم الله- من عهد الصحابة إلى عصر التدوين الفقهي واستقرار المذاهب، يعتنون بعلوم الكتاب والسنة واستنباط الأحكام الشرعية للمسائل الحادثة الواقعة بالفعل في وقتهم حتى إذا أحاطوا بها، ارتأى بعضهم أن يفرض مسائل لم تقع أو قريبة الوقوع حتى إذا حدثت كان الحكم مقررا قبلها، ورأى البعض الآخر أنه لا ينبغي أن يتشاغل بمثل ذلك فإن وقعت الحادثة اشتغل علماء زمانها باستنباط حكمها، فقد كان عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-يقول: «أحرج عليكم أن تسألونا عما لم يكن، فإن لنا فيما كان شغلا»
وكان زيد بن ثابت -رضي الله عنه- يقول إذا سئل عن الأمر: «أكان هذا؟» فإن قالوا: نعم كان، حدث فيه بالذي يعلم، وإن قالوا: لم يكن قال: «فذروه حتى يكون» وعن مسروق قال: سألت أبي بن كعب عن شيء، فقال: أكان بعد، قلت: لا، قال: «فأجمنا حتى يكون، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا» أخرجها كلها الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"، وقد فعلوا ذلك تورعا منهم أن يزلوا، وقد ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قد كان يخبر عن الحادثة ويجيب عنها من قبل أن تقع، كما أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يُسأل عما لم يقع فيجيب السائل من غير إنكار عليه سؤاله فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه (ح 1847) عن حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أنه قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ»، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ»، فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: «نَعَمْ، قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، فَقُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ».
وما أخرجه مسلم أيضا (ح 2937) عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ -رضي الله عنه- في حديثه الطويل عن الدجال وفيه:" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: «لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ»
والأدلة من هذا النوع كثيرة، وأما ما يظن منه التحريم من أن النبي -صلى الله عليه وسلم-نهى عن ذلك بقوله: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما، رجل سأل عما لم يحرم فحرم من أجل مسألته» قد أجاب عنه الإمام المزني بقوله:" يقال لمن أنكر السؤال في البحث عما لم يكن لم أنكرتم ذلك؟ فإن قالوا: لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كره المسألة، قيل: وكذلك كرهها بعد أن كانت ترفع إليه لما كره من افتراض الله الفرائض بمساءلته، وثقلها على أمته لرأفته بها وشفقته عليها، فقد ارتفع ذلك برفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا فرض بعده يحدث أبدا وإن قالوا: لأن عمر أنكر السؤال عما لم يكن، قيل: فقد يحتمل إنكاره ذلك على وجه التعنت والمغالطة، لا على التفقه والفائدة، وقد روي أنه قال لابن عباس: سل عما بدا لك، فإن كان عندنا، وإلا سألنا عنه غيرنا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكما روي عن علي من إنكاره على ابن الكواء أن يسأل تعنتا، وأمره أن يسأل تفقها".
فاسترشد بذلك من رأى فرض المسائل والجواب عنها لما سيقع بعدهم ابتغاء أن ينتفع بها المسلمون عند وقوعها وأشهر من اهتم بذلك هو الإمام أبي حنيفة وجعله من باب الاستعداد للبلاء قبل نزوله؛ فذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (15/473):" عن النضر بن محمد، قال: دخل قتادة الكوفة، ونزل في دار أبي بردة، فخرج يوما وقد اجتمع إليه خلق كثير، فقال قتادة: والله الذي لا إله إلا هو، ما يسألني اليوم أحد عن الحلال والحرام إلا أجبته، فقام إليه أَبُو حنيفة، فقال: يا أبا الخطاب، ما تقول في رجل غاب عن أهله أعواما، فظنت امرأته أن زوجها مات، فتزوجت، ثم رجع زوجها الأول، ما تقول في صداقها؟ وقال لأصحابه الذين اجتمعوا إليه: لئن حدث بحديث ليكذبن، ولئن قال برأي نفسه ليخطئن، فقال قتادة: ويحك، أوقعت هذه المسألة؟ قال: لا، قال: فلم تسألني عما لم يقع؟ فقال أبو حنيفة: إنا نستعد للبلاء قبل نزوله، فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه"، ثم تابعه الفقهاء فأكثروا من فرض المسائل في المائة الثالثة وما بعدها.
إمام الحرمين وفقه الاستشراف
يحتفي تراث الأمة التشريعي بنماذج -لا بأس بها- لها الريادة في مجال الفقه الاستشرافي ومن هؤلاء الأئمة إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني المتوفى سنة (478ه) فقد كان بحق رائد هذا الطريق وخاصة في كتابه "غياث الأمم في التياث الظلم" فهو في هذا الكتاب كما يقول بعض الباحثين:" الميدان الذي روض فيه هذا الفقه ودرّب فيه الفقهاء من بعده على فنونه، واستعلام معالمه، واستشعار جدواه وفوائده، ولعل في قطع الإمام الجويني نفسه بأنه لم يسبق إليه في اقتحام هذا المعترك أحد، من نابغة العلم على ممر الأيام، ومكر الأعصار، ما يثبت أنه رائد هذا الفقه، ومؤسس صرحه في الفقه العام بلا منازع، فكان حقيقا بأن يكون مناظرا لأبي حنيفة في تجريب عناء الدرب، ونصب معالم الطريق".
وقد أشار إمام الحرمين نفسه إلى ذلك فقال في وصف كتابه (ص520):" أنه ليس خاليا عن فوائد جمة مع بقاء العلوم بتفاصيل الشريعة، وفيها التنبيه على مأخذ الأصول والفروع، ومن أحكمه تفتحت قريحته في مباحث المعاني، وعرف القواعد والمباني، ورقى إلى مرقى عظيم من الكليات لا يدركه المتقاعد الواني، وطرق المباحث لا تتهذب إلا بفرض التقديرات قبل وقوعها والاحتواء على جملها، ومجموعها".
وإمام الحرمين قد استشعر ضرورة التفكير والتوقع لحال الزمان وتقلبه، وتغير نظامه من خلو الزمان عن الأئمة في الدين والدنيا، وأنه يجب التدبير لأسوء الحالات التي يمكن أن تحل بالأمة أو طوائف منها عند انقطاع الإمامة، أو ذهاب علم الأحكام، واندراس معالم الفقه، وذهاب حملته، وهو قد سمى التوقع تخيلا فقال (ص 521):" أني وضعت هذا الكتاب لأمر عظيم، فإني تخيلت انحلال الشريعة، وانقراض حملتها، ورغبة الناس عن طلبها، وإضراب الخلق عن الاهتمام بها، وعاينت في عهدي الأئمة ينقرضون ولا يخلفون، والمتسمون بالطلب يرضون بالاستطراف، ويقنعون بالأطراف وغاية مطلبهم مسائل خلافية يتباهون بها، أو فصول ملفقة، وكلم مرققة في المواعظ يستعطفون بها قلوب العوام والهمج الطغام، فعلمت أن الأمر لو تمادى على هذا الوجه لانقرض علماء الشريعة على قرب وكثب، ولا تخلفهم إلا التصانيف والكتب. ثم لا يستقل بكتب الشريعة على كثرتها واختلافها مستقل بالمطالعة من غير مراجعة مع مرشد، وسؤال عن عالم مسدد؛ فجمعت هذه الفصول، وأملت أن يشيع منها نسخ في الأقطار والأمصار، فلو عثر عليها بنو الزمان لأوشك أن يفهموها لأنها قواطع، ثم ارتجيت أن يتخذوها ملاذهم ومعاذهم، فيحيطوا بما عليهم من التكاليف في زمانهم، ويتحفظونه لصغر حجمه واتساق نظمه".
وتتجلى أهمية الغياثي في المنهج الذي سلكه إمام الحرمين في التوقع، وكيفية فرض المشكلة وعرضها ثم وضع الحلول والأجوبة لها، ثم الأثر الذي انبنى على محاولته هذه فيمن بعده، وهو ما سنوضحه في العدد القادم بمشيئة الله تعالى.