خلق الله تعالى الإنسان ووهبه الملكات التي تمكنه من تحصيل العلم والمعرفة، والإنسان يولد لا يعرف شيئا عن هذا الكون الفسيح الذي خرج إليه، ثم تتكون معرفته شيئا فشيئا وتتراكم مع مرور الزمن، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]
وقد حث الإسلام على البحث والتفكر في أرجاء هذا الكون الفسيح، وأشار إلى أن هناك جوانب لم يصل إليها الإنسان بعلمه كما جاء في هذا القسم العظيم: { فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38، 39]
وقد حاولت بعض الأديان أن تقيد العقول وتمنعها من مباشرة وظيفتها التي خلقها الله لها، إلا أن الإسلام عاب على هؤلاء خضوعهم للتقاليد البالية، ومتابعتهم للآباء من غير استناد إلى برهان، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
دار الإفتاء المصرية تفتح الباب أمام الأبحاث المستقبلية:
وانطلاقا من هذه المبادئ الإسلامية فتحت دار الإفتاء المصرية آفاق البحث نحو المستقبل وذلك في فتواها رقم: 4376 والصادرة بتاريخ : 10/12/2011م.
حيث كان نص السؤال ما يلي:
أنا طالب مسلم أدرس الفيزياء في جامعة في أمريكا، وكنت قد سمعت من أحد الأساتذة في إحدى المحاضرات: أنه توجد عملية تسمى Time travel وتترجم إلى العربية السفر عبر الزمن وهي إلى المستقبل والماضي أو إلى المستقبل فقط، وقد أصبح ذلك ممكنًا عن طريقة نظرية Twin paradox.
وأما السفر إلى الماضي فغير ممكن حاليًا. لكن بعض العلماء يقولون إن من الممكن أن يحدث هذا في المستقبل؛ لأن الاكتشافات كانت في الأسس أحلامًا، فمن غير المستبعد حدوث هذا في المستقبل. وعندما قلت هذا لإمام أحد المساجد وجدته يعترض بشدة، بل قال: إن هذا لم يحدث ولن يحدث؛ لأنه يوجد نصوص في القرآن والسنة تنفي حدوث هذه الفكرة صراحة، وإن اعتقدت بهذه الفكرة فأنت آثم؛ لأنك تعتقد بحدوث أمر الله، وقال إنه لن يحدث، وعندما قلت له: إن بعض المشايخ قال هذا على عملية الاستنساخ قبل حدوثها، رد بأن العلماء قالوا إن من يحاول إنجاح الفكرة آثم، ولم يقولوا إن هذه الفكرة مستحيل حدوثها، بخلاف فكرتك السابقة فإنه يوجد نصوص تمنع حدوث مثل هذه الفكرة. فما القول الصحيح؟ هل يوجد نصوص تقول إن هذه الفكرة لم تحدث، أو من المكن أن تحدث لكن أصحابها آثمون أم من الممكن حدوثها؟
وقد استهلت دار الإفتاء جوابها بالحديث عن حث الإسلام على العلم فقالت:
"حث الإسلام على البحث العلمي وتلمُّس آيات الله تعالى المنظورة في الكون والمسطورة في الوحي، بما يدل عليه سبحانه وتعالى وجودًا وصفات، ويدل على سننه ونظامه في الأنفس والآفاق؛ فمصدر المعرفة في الإسلام شيئان: الوحي والوجود، وقد جاء الأمر الإلهي بقراءة الوحي وقراءة الكون؛ لأنهما من عند الله، قال تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54]، فهما لا يختلفان ولا تنازع بينهما؛ فإن ما كان من عند الله تعالى فهو لا يختلف ولا تناقض فيه، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، وقد تفرد الإسلام من بين الأديان والمذاهب الأرضية والتيارات والأفكار بأنه الوحيد الذي جعل آخر طريق العلم هو الجنة، فأخرج مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا؛ سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ»".
ثم نبهت الفتوى على ضرورة التروي وعدم المسارعة إلا تحريم الفروض والنظريات العلمية مادام أنها في طور البحث: "ومثل هذه الأبحاث لا ينبغي المسارعة إلى دعوى تناقُضِها مع الكتاب والسنة؛ لأن الشريعة تستوعب كل الأسقف المعرفية وتتسق مع كل الحقائق العلمية، كما أنها تحث على الاجتهادات البحثية طالما هي في طور البحث الجادِّ والاجتهاد العلمي، بل وتبشر المجتهد فيها بالأجر حتى لو أخطأ ما لم يدَّع غير الحقيقة أو ينفي الحقائق الثابتة، وعلى كلٍّ فالإسلام أكبر من أفهام الناس، والنصوص الشرعية أنزلها الحكيم الخبير الذي يعلم الغيب."
ثم عرضت الفتوى للنظرية التي تستند إليها فكرة "السفر عبر الزمن":
"فمن النظريات العلمية المشهورة نظرية النسبية لأينشتاين؛ وهي تقتضي في نتائجها -التي ما زال بعضها نظريًّا ومحل بحث مستمر، بل إن بعضها منسوب إلى الفلسفة الفكرية أكثر منه إلى الفيزياء المادية- إمكانية السفر عبر الزمن ورؤية الماضي والمستقبل، وقد جاءت فكرة أينشتاين عن السفر عبر الزمان من تفسيره للزمان بالمكان والمكان بالزمان، فالساعة كذا تعبر عن موضع معين للأرض من الشمس، وفي نفس هذه الساعة زمن آخر، كما يجتمع ليل ونهار، فتتعدد التقديرات الزمنية على الأرض، ولكن لا تتعدد في الزمان والمكان الواحد أو ما يسمونه بالزمكان من جهة واحدة.
وبنت النسبية هذا المعنى على أساس أن هناك حدًّا لسرعة الأشياء يجعلها محصورةً دائمًا في مدى زماني ومكاني محدد لا تتعداه، فإذا أمكن لجسم ما أن يزيد من معدل سرعته خارج هذا الحدِّ أمكنه كسر هذا الإطار ليدخل في قواعد زمان ومكان مختلفة، ومن ذلك ما يفعله الضوء بسرعته التي تحيل المادة إلى طاقة، ويتناهى عندها الزمان إلى أصغر حدوده المعقولة 300,000 كم/ ث؛ فلو تُصُوِّر أن إنسانًا امتطى صهوة شعاع ضوئي فإنه يخرج عن حيز الأرض في أقل بكثير من الثانية.. وهكذا".
ثم ذهبت الفتوى إلى أن فكرة السفر عبر الزمن تدخل في دائرة الأمور التي يجيز العقل وقوعها وليست من المحالات العقلية:
"وهذا الانتقال عبر الزمن متصوَّر باختلاف العوالم الذي يجعل هناك تفاوتًا في معايير الزمان بالنسبة إلى كل عالم، وهذا الانتقال له صور: فقد يكون الانتقال إلى المستقبل، وقد يكون إلى الماضي، ويكون ذلك أيضًا برؤية أيٍّ من الماضي أو المستقبل أو شيء منه بينما الرائي لا يزال في لحظته، وكلها أمور جائزة عقلًا، وليست من المحال العقلي. ويدخل ذلك كلُّه في قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ۞ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ۞ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ [الجن: 26-28]؛ ودقة التعبير وعمق الدلالة في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ هي خير شاهد على ذلك".
ثم ساقت الفتوى عددا من الشواهد التي تبين أن هذا ليس من قبيل المحال العقلي وإن كان على خلاف العادة الجارية، وانتهت إلى أن كل ذلك من آيات الله تعالى الباهرة في الكون والإنسان والآفاق؛ مصداقًا لقوله عز وجل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53].
وضابط ذلك كله: أن الله تعالى قادر على كل شيء، وأن القدرة تتعلق بالممكن العقلي، ولكنها لا تتعلق بالمستحيل ولا بالواجب العقليين، فكل ما كان تحت عالم الإمكان، ولم يرد في الشريعة ما يمنع حصوله، فهو داخل تحت القدرة، ولا تُسمَع فيه دعوى الاستحالة، ولا تكفيرَ ولا تضليلَ ولا تأثيمَ في ذلك.
وليس من شأن المسلم المسارعة إلى التخطئة بغير برهان واضح، بل الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وعلى المسلم أن يبحث عن الحق أينما كان، وأن يسعى في البحث العلمي بأريحية لا قيد فيها إلا من جهة التطبيق والممارسة بالضوابط العلمية والدينية والخلقية وغيرها.