نستأنف الحديث في هذا العدد عن استعراض أهم الكتب والمراجع التي تناولت آداب الفتوى و مسائلها وأحكامها المختلفة، ومن أهم هذه الكتب: ذلك الكتاب الذي ألفه الإمام النووي –رحمه الله تعالى-عن قضايا الفتوى وآدابها وما يتعلق بها من أحكام، و عنوانه " آداب الفتوى والمفتي والمستفتي".
سبب التصنيف:
وهذا المصنف في الأصل عبارة عن "باب" أو "مبحث" ضمن مجموعة من الأبواب والمباحث كان النووي رحمه الله تعالى قد قدم بها لكتابه العظيم "المجموع"، ثم أُخذ هذا الباب أو المبحث و جُعل مؤلفًا مستقلًا؛ نظرًا لأهميته و حسن استيعابه وتنظيمه.
والكتاب الذي نقدمه هو في حقيقته جمع لأهم مباحث المؤلفات السابقة التي تحدثت عن أدب الفتوى والمستفتي، وبالتحديد أبو القاسم الصيمري و أبو بكر البغدادي وأبو عمرو بن الصلاح، فقد قام النووي بجمع نفائسها مع استيعاب ما ذكر في الكتب الأخرى، ثم قام بتنسيقها وترتيبها على الطريقة البديعة التي عليها المصنف الآن، يقول النووي عن منهجه في هذا المؤلف وسبب تصنيفه:
" إعلم أن هذا الباب مهم جدا، فأحببت تقديمه لعموم الحاجة إليه وقد صنف في هذا جماعة من أصحابنا منهم أبو القاسم الصيمري شيخ صاحب الحاوي ثم الخطيب أبو بكر الحافظ البغدادي ثم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وكل منهم ذكر نفايس لم يذكرها الآخران: وقد طالعت كتب الثلاثة ولخصت منها جملة مختصرة مستوعبة لكل ما ذكروه من المهم وضممت إليها نفائس من متفرقات كلام الأصحاب وبالله التوفيق".
ترجمة المؤلف:
هو الإمام الحافظ العلامة محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، نسبة إلى نَوَى، وهي قرية من قرى حَوْران في سورية، صاحب التصانيف النافعة المشهورة والأيادي البيضاء على العلم وأهله، ولد الإمام النووي (رحمه الله) في محرم عام 631هـ في قرية نَوَى من أبوين صالحين، وتوفي الإمام النووي (رحمه الله) بِنَوَى في 24 من رجب سنةَ 676هـ، ولما بلغ نعيه إلى دمشق ارتجَّت هي وما حولها بالبكاء، وتأسَّف عليه المسلمون أسفًا شديدًا.
والإمام النووي له مصنفات كثيرة نافعة حتى أننا لو قلنا أنه لا يخلو بيت من إحدى مصنفاته لما جاوزنا الصواب، منها على سبيل المثال لا الحصر: رياض الصالحين، وشرح الأربعين النووية، والمجموع وشرح صحيح الإمام مسلم، والروضة و المنهاج، وغير ذلك كثير.....
أما عن مناقبه وفضائله فحدث ولا حرج، ولعل أجمع وأبلغ ما قيل في الثناء عليه هو ما قاله المحدث أبو العباس بن فرح: "كان الشيخ محي الدين قد صار إليه ثلاث مراتب، كل مرتبة منها لو كانت لشخص شُدَّت إليه آباط الإبل من أقطار الأرض:
المرتبة الأولى: العلم والقيام بوظائفه.
والثانية: الزهد في الدنيا .
الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ونظرًا للشهرة الواسعة والمناقب الكثيرة الذائعة وحتى يسعنا أن ننقل من كلامه النفائس والدرر، فنكتفي بهذا القدر من ترجمته ونحيل القاريء الكريم للاستزادة من المؤلفات التي أسهبت في تناول سيرته ومسيرته –رحمه الله تعالى-، ومنها:
"تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيي الدين" لابن العطار
"المنهل العذب الروي في ترجمة الإمام النووي" للسخاوي
3. "المنهاج السوي في ترجمة الإمام النووي" جلال الدين السيوطي.
بين يدي الكتاب:
نجد النووي رحمه الله تعالى قد خالف في طريقة تبويبه وعرضه لمباحث وموضوعات الإفتاء من سبقوه بالتصنيف؛ بحيث نستطيع القول أنه أعاد عرضها وتقديمها بصورة جديدة مبتكرة مع جمع واستيعاب لأهم ما في مصنفات السابقين، وكان ترتيب الكتاب على النحو التالي:
ابتدأ المؤلف بالحديث عن أهمية الفتوى وخطرها عند الله تبارك وتعالى وموقف السلف الصالح رضوان الله عليهم في التعامل مع الفتوى.
ثم شرع في ذكر معرفة من يصلح للفتوى وشروط أهلية المفتي
وخصص فصلًا للحديث عن أقسام المفتين.
ثم تحدث عن أحكام مختلفة متعلقة بالمفتين، و بسط القول فيها في نحو تسع مسائل، منها: حكم الإفتاء - حكم رجوع المفتي عن فتواه- حكم التساهل في الفتوى- حكم أخذ أجرة على الفتوى.
وبعد أن تحدث عما يتعلق بالمفتي وما يتعلق به من أحكام وآداب، شرع في الحديث عن الفتوى نفسها ومالها من آداب وعقد لذلك فصلًا كاملًا تناول فيه تسعة عشرة مسألة عن تلك الآداب والأحكام والمهارات المتعلقة بالفتوى وطريقة إجابتها، ومن أهم تلك المسائل: الرفق بالمستفتي في توصيل الفتوى -المشاورة في الفتوى -عدم التعجل في الفتوى-مراعاة مهارات وفنيات الكتابة في الفتوى المكتوبة- مسألة ذكر المفتي للحجة و الدليل.
- ثم خصص الفصل الأخير للحديث عن الركن الثالث للإفتاء وهو المستفتي؛ حيث بسط القول في الحديث عن صفة المستفتي و ماهيته ، وشرع في ذكر مسائل تتعلق بالآداب والأحكام المتعلقة بالمستفتي، ومن أهمها: الطرق التي يعرف بها المستفتي اختيار المفتي المؤهل- إذا اختلف على المستفتي فتوى المفتين- إذا استفتي فأفتى ثم حدثت تلك الواقعة له مرة أخرى فهل يلزمه تجديد السؤال- أدب المستفتي مع المفتي- مسألة عدم وجود المفتي المؤهل.
عرض لبعض أهم موضوعات الكتاب :
أهمية الفتوى وفضلها وعظيم خطرها:
يقول النووي عن أهمية الفتوى وفضلها: "اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر كبير الموقع كثير الفضل لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقائم بفرض الكفاية لكنه معرض للخطأ، لهذا قالوا المفتي موقع عن الله تعالى، وروينا عن ابن المنكدر قال العالم بين الله تعالى وخلقه فلينظر كيف يدخل بينهم،
وروينا عن السلف وفضلاء الخلف من التوقف عن الفتيا أشياء كثيرة معروفة نذكر منها أحرفا تبركا ،وروينا عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وفي رواية ما منهم من يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا...، قال الصيمري والخطيب وقل من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها إلا قل توفيقه واضطرب في أمره وإن كان كارها لذلك غير موثر له ما وجد عنه مندوحة وأحال الأمر فيه على غيره كانت المعونة له من الله أكثر والصلاح في جوابه أغلب".
شروط تأهل المفتي وتصدره للفتوى:
قال النووي: "شرط المفتي كونه مكلفا مسلما ثقة مأمونا متنزها عن أسباب الفسق وخوارم المروءة فقيه النفس سليم الذهن رصين الفكر صحيح التصرف والاستنباط متيقظا سواء فيه الحر والعبد والمرأة والأعمى والأخرس إذا كتب أو فهمت إشارته...، قال الصيمري: وتصح فتاوى أهل الأهواء والخوارج ومن لا نكفره ببدعته ولا نفسقه".
حكم الاجتهاد الجزئي:
قال النووي: "إنما يشترط اجتماع العلوم المذكورة (يقصد العلوم الواجب توافرها في المجتهد من الفقه و أصوله و واللغة و علوم القرآن والحديث إلخ...) في مفت مطلق في جميع أبواب الشرع، فأما مفت في باب خاص كالمناسك والفرائض فيكفيه معرفة ذلك الباب كذا قطع به الغزالي وصاحبه ابن برهان بفتح الباء وغيرهما ومنهم من منعه مطلقا وأجازه ابن الصباغ في الفرائض خاصة والأصح جوازه مطلقا".
التسرع والتساهل في الفتوى:
قال النووي:" يحرم التساهل في الفتوى ومن عرف به حرم استفتاؤه ،فمن التساهل أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس بالمبادرة وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة ،ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلبا للترخيص لمن يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره، وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها لتخليص من ورطة يمين ونحوها فذلك حسن جميل، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا كقول سفيان إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التشديد فيحسنه كل أحد" .
أهمية توفر البيئة المناسبة للعملية الإفتائية:
قال النووي: "ينبغي أن لا يفتي في حال تغير خلقه وتشغل قلبه وتمنعه التأمل كغضب وجوع عطش وحزن وفرح غالب ونعاس أو ملل أو حر مزعج أو مرض مؤلم أو مدافعة حدث وكل حال يشتغل فيه قلبه ويخرج عن حد الاعتدال فإن أفتى في بعض الأحوال وهو يرى أنه لم يخرج عن الصواب جاز وإن كان مخاطرا بها"
الحسم في الفتوى:
ينبغي للمفتي أن يكون حاسمًا في فتواه غير متردد؛ وأن يكون جوابه واضحًا بحيث يزيل الإشكال لدى المستفتي؛ لأن هذه الحالة من التردد وعدم الوضوح تعود على المستفتي بالاضطراب والقلق والوسوسة؛ لذلك كان منهج الحسم والبيان هو الأليق والأنسب لحالة الفتوى، يقول النووي: " ينبغي أن لايقتصر في فتواه على قوله في المسألة خلاف أو قولان أو وجهان أو روايتان أو يرجع إلى رأي القاضي ونحو ذلك فهذا ليس بجواب ومقصود المستفتي بيان ما يعمل به فينبغي أن يجزم له بما هو الراجح فإن لم يعرفه توقف حتى يظهر أو يترك الإفتاء...، و يلزم المفتي أن يبين الجواب بيانا يزيل الإشكال".
قاعدة مهمة في التعامل مع مسائل المواريث:
قال النووي: " قال الصيمري وأبو عمرو إذا سئل عن ميراث فليست العادة أن يشترط في الورثة عدم الرق والكفر والقتل وغيرها من موانع الميراث بل المطلق محمول على ذلك بخلاف ما أطلق الإخوة والأخوات والأعمام وبينهم فلا بد أن يقول في الجواب من أب وأم أو من أب أو من أم وإذا سئل عن مسألة عول كالمنبرية وهي زوجة وأبوان وبنتان فلا يقل للزوجة الثمن ولا التسع لأنه لم يطلقه أحد من السلف بل يقل لها الثمن عائلا وهي ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين أو لها ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين أو يقول ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه صار ثمنها تسعا...".
مسألة ذكر المفتي الدليل للمستفتي:
قال النووي: "ليس بمنكر أن يذكر المفتي في فتواه الحجة إذا كانت نصا واضحا مختصرا، قال الصيمري لا يذكر الحجة إن أفتى عاميا ويذكرها إن أفتى فقيها كمن يسأل عن النكاح بلا ولي فحسن أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نكاح إلا بولي أو عن رجعة المطلقة بعد الدخول فيقول له رجعتها قال الله تعالى {وبعولتهن أحق بردهن} (سورة البقرة الآية 228)
قال: ولم تجر العادة أن يذكر في فتواه طريق الاجتهاد ووجهة القياس والاستدلال إلا أن تتعلق الفتوى بقضاء قاض فيومئ فيها إلى طريق الاجتهاد...، وقد يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدد ويبالغ فيقول وهذا إجماع المسلمين أو لا أعلم في هذا خلافا أو فمن خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن الصواب أو فقد أثم وفسق أو وعلى ولي الأمر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر وما أشبه هذه الألفاظ على حسب ما تقتضيه المصلحة وتوجبه الحال".
كيفية اختيار المستفتي لمن يفتيه:
قال النووي: "يجب عليه (أي: المستفتي) قطعا البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفا بأهليته فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم وانتصب للتدريس والإقراء وغير ذلك من مناصب العلماء بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك، ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلا للفتوى".
أدب المستفتي مع المفتي:
ينبغي للمستفتي أن يتأدب مع المفتي ويبجله في خطابه وجوابه ونحو ذلك ولا يومئ بيده في وجهه ولا يقل له ما تحفظ في كذا أو ما مذهب إمامك أو الشافعي في كذا ولا يقل إذا أجابه هكذا قلت أنا أو كذا وقع لي ولا يقل أفتاني فلان أو غيرك بكذا ولا يقل إن كان جوابك موافقا لمن كتب فاكتب وإلا فلا تكتب ولا يسأله وهو قائم أو مستوفز أو على ضجر أو هم أو غير ذلك مما يشغل القلب...، قال الصيمري فإن اقتصر على فتوى واحد قال ما تقول رحمك الله أو رضي الله عنك أو وفقك الله وسددك ورضي عن والديك ولا يحسن أن يقول رحمنا الله وإياك، وإن أراد جواب جماعة قال ما تقولون رضي الله عنكم أو ما تقول الفقهاء سددهم الله تعالى".
وبعد،،،، فقد كانت هذه أهم المسائل التي تناولها المؤلف-رحمه الله- في مؤلفه، نسأل الله أن يثقل بهذا العمل موازينه يوم القيامة وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.