نستكمل في هذا المقال ما تبقى من الهدي النبوي في الفتيا، والتي أجملناها في نقاط محددة، ذكرنا منها أربعة، والآن نذكر باقيها:
5. محاورة السائل، وإشعاره بالسكينة والطمأنينة خاصة فيما يستحي السائل من ذكره: فقد كان نبينا –صلى الله عليه وسلم- يقدم بين القول الذي يُستحيى من ذكره ما يرفع هذا الحرج على السامع كما قدم بين يدي تعليمه الصحابة آداب الاستنجاء قوله: "إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ".
وأحسن ما يطمئن السائل فيما يستحيا منه المحاورة بالحسنى، وليس الإلقاء المجرد الذي يظل معه السامع واقفا حيث هو، وهذا إنما يصنعه المفتي المربي الذي ينزل الناس منزلة أهله وولده، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ –رضي الله عنه- قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-َ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ، مَهْ، فَقَالَ: «ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا». قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟» قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ» قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ» قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ»، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ» فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ. أخرجه أحمد في المسند(5/256)
6. حض السائل على الخير وإن قلّ: فقد سئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المعروف فقال: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أَن تعطي صلة الحبل ولو أن تعطي شسع النعل، ولو أَن تفرغ من دلوك في إناء المُستسقي، ولو أَن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم ولو أن تلقى أخاك، ووجهك إليه طلق ولو أَن تلقى أَخاك فتسلِّم عليه، ولو أَن تؤنس الوحشان في الأرض" أخرجه أحمد في المسند (3/ 482) وفي رواية له أيضا (5/63) :" وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل أن يعلمه ما ينفعه، فقال: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تُفرغ من دلوك في إناء المستقي، ولو أن تُكَلِّم أخاك، ووجهك مُنبسطٌ إليه، وإن امرؤ شتمك بما يعلم فيك، فلا تشتمه بما تعلم منه، فإنَ أجره لك، ووباله على مَنْ قاله"
7. إرشاد السائل إلى الأكمل الذي يعود عليه بالنفع وإن كان ظنه خلافه: ومن ذلك قوله لأبي النعمان بن بشير، وقد خصَّ بعض ولده بغلام نَحَله إياه؛ فقال: "أيسرُّك أن يكونوا لك في البِرِّ سواء؟ ". قال: نعم. قال: "فلا إذا" وفي لفظ: "فاتقوا اللَّه واعدلوا بين أولادكم" وفي لفظ: "إن هذا لا يصلح"، وفي لفظ: "إني لا أَشْهد على جور"، وفي لفظ: "أَشْهِد على هذا غيري" أخرجها كلها مسلم (ح1623)
8. صرف السائل عما لا ينفعه إلى ما ينفعه بلطف الحيلة: فقد سأل عدي بن حاتم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أبي كان يصلُ الرحم، وكان يفعل ويفعل؟ فقال: "إن أباك أراد أمرًا فأدركه" يعني الذِّكْر".
فقد كان حاتم يلمح بسؤاله معرفة حال أبيه أفي الجنة هو أم في النار، فصرفه النبي –صلى الله عليه وسلم- عن ذلك بلطف الحيلة بقوله: "إن أباك أراد أمرًا فأدركه" يعني الذِّكْر، أي أنه ما قصده من الذكر قد حصّله، فلا يذكر الجود إلا بحاتم الطائي.
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: بينما أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- خارجان من المسجد، فلقينا رجل عند سدة المسجد، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما أعددت لها؟»، فكأن الرجل استكان، ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كبير صيام، ولا صلاة، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت" أخرجه البخاري (ح7153)
9. التيسير ما وجد إليه سبيل: وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: لم أشْعُر فحلقت قبل أَن أذبح، فقال: "اذبح ولا حرج" وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أَن أَرمي، فقال: "ارم، ولا حرج" فما سئل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شيء قُدِّم، ولا أُخَّر إلا قال: "افعل، ولا حرج". متفق عليه.
وعند أحمد: "فما سئل يومئذ عن أمر مما يَنْسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأُمور على بعض وأشباهها إلا قال: "افعل ولا حرج"، وفي لفظ: أنه سئل عمَّن ذبح قبل أَن يحلق أو حلق قبل أَن يذبح قال: "لا حرج"، وقال: كان الناس يأتونه فمن قائل: يا رسول اللَّه سعيت قبل أَن أَطوف وأخَّرتُ شيئًا، وقدمت شيئًا، فكان يقول: "لا حرج إلا على رجل اقترض عِرْض مسلم وهو ظالم فذلك الذي حَرِج وهلك"، أخرجه أبو داود (ح2015).
10. جبر قلب السائل وتطييب خاطره ما لم يكن إثما: فمن ذلك إذن النبي –صلى الله عليه وسلم- بفعل المباح الذي تركه أولى من فعله تطييبا للخاطر فعندما سألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: "إني نذرت إن ردَّك اللَّه سالمًا أن أضربِ على رأسك بالدفِّ، فقال: "إن كنتِ نذرتِ فافعلي، وإلا، فلا". قالتْ إني كنت نذرت، فقعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فضربت بالدف".
يقول ابن القيم:" أباح -صلى الله عليه وسلم- لها الوفاء بالنذر المباح تطييبًا لقلبها، وجبرًا وتأليفًا لها على زيادة الإيمان وقوته وفرحها بسلامة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[إعلام الموقعين (6/386)]
11. إرشاد السائل إلى البديل والمخرج الشرعي: فقد روى البخاري في "صحيحه" من حديث أبي هريرة وأبي سعيد "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- استعمل رجلًا على خيبر، فجاءهم بتمرٍ جَنيبٍ، فقال: أكلُّ تمر خيبر هكذا؟ قال: إنا لنأخذ الصالح من هذا بالصَّاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا"، فأرشده إلى الحيلة على التخلص من الربا بتوسط العقد الآخر.
وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- ضباعة بنت الزبير فقالت: إني أريد الحجَّ، وأَنا شاكية؟ فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حجي واشترطي أَنَّ مَحلِّي حيث حبستني"، أخرجه مسلم (ح1207)، واستفتته أم سلمة في الحج، وقالت: إني أشتكي، فقال: "طوفي من وراء الناس، وأنت راكبة". أخرجه البخاري (ح464)
12. الترغيب في التوبة وعدم التيئيس من رحمة الله تعالى: فقد سئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل قد أوجب، فقال: "أعتقوا عنه رقبة يعتق اللَّه بكل عضو منها عضوًا منه من النار"، أخرجه أبو داود (ح3964)، أوجب: أي استوجب النار بذنب عظيم ارتكبه.
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها فليس يأتي الرجل من امرأته شيء إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها؟ فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "توضأ، ثم صلِّ" فقال معاذ: فقلت يا رسول اللَّه أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: "بل للمؤمنين عامة"
13. التفرقة في الجواب بين سؤال التفهم وسؤال العناد: فقد سأل لقيط بن عامر رسول الله: كيف يجمعنا ربنا بعد ما تمزِّقنا الرياح والبلى والسباع؟ فقال للسائل: "أُنبئك بمثل ذلك في آلاء اللَّه، الأرض أشْرفتَ عليها، وهي مَدَرة بَالية، فقلت: لا تحيى أبدًا، ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أيامًا، ثم أشرفتَ عليها وهي شَرْبةٌ واحدة ولعمر إِلهك! لهو أقدر على أن يجمعهم من الماء على أن يَجمَع نباتَ الأرض"، أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في "زوائده على المسند" (4/ 13)، ولكن عندما جاء أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، بِعَظْمٍ نَخِرٍ، فَجَعَلَ يَذْرُوهُ فِي الرِّيحِ، فَقَالَ: أَيُحْيِي اللهُ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " نَعَمْ، يُحْيِي اللهُ هَذَا، وَيُمِيتُكَ، وَيُدْخِلُكَ النَّارَ" أخرجه عبد الرزاق في التفسير (ح2498)
فالأول إنما سأل مستفهما متعلما، والثاني ما سأل إلا معاندا مستكبرا.
14. الدلالة على التوازن في الأمور كلها: فقد كان –صلى الله عليه وسلم- يحض على العدل والإحسان في كل شيء حتى فيما يظن أنه من باب التخلي عن الدنيا والتقرب إلى الله عز وجلك، فقد ظن بعض الصحابة أن الإكثار من العمل مع الإهمال لشؤون الدنيا هو الخير فردهم النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى الجادة كما فعل مع عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي الدرداء وغيرهما وأصداء نصيحته لهم لا تزال تتردد على آذاننا:" إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ".
وفي مسند أحمد (5/ 266) أن رجلا سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا نبي اللَّه مررت بغَارٍ فيه شيء من ماء فحدَّثت نفسي بأن أقيم فيه فيقوتني ما فيه من ماء وأصيب ما حوله من البقل وأتخلّى عن الدنيا؟ فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنّي لم أُبعث باليهودية، ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة، والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل اللَّه خير من الدنيا وما فيها، ولمقام أحدكم في الصف خيرٌ من صلاته ستين سنة".
15. الجواب "بلا أدري" عما لا يعلمه: فقد سُئل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أي البلاد شرّ فقال؟ "لا أدري حتى أسأل جبريل"، فسأله فقال: أسواقها". أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (ح1599)، وبهذا تأسى الصحابة –رضي الله عنهم- والتابعين، قال عقبة بن مسلم: صحبت ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- أربعة وثلاثين شهرًا، فكان كثيرًا ما يُسأل فيقول: لا أدري، وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تستحيي من قولك: لا أدري، وأنت فقيه أهل العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستحي حين قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32].
وبهم تأسى أصحاب المذاهب قال الإمام مالك: من فقه العالم أن يقول: "لا أعلم"؛ فإنه عسى أن يتهيأ له الخير، وقال: سمعتُ ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يُورث جلساءه من بعده: "لا أدري"، حتى يكون ذلك أصلًا في أيديهم يفزعون إليه وقال الشافعي: سمعت مالكًا يقول: سمعتُ ابنَ عجلان يقول: إذا أغفل العالم "لا أدري" أُصيبت مقاتله، وقال أبو داود: سمعت أحمد وسئل عن مسألة فقال: دعنا من هذه المسائل المحدثة، وما أُحصي ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف من العلم فيقول: لا أدري. وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عيينة في الفُتيا أحسن فتيًا منه كان أهون عليه أن يقول: "لا أدري" مَنْ يحسن مثل هذا؟ سل العلماء.
وختاما لا نملك إلا أن نكثر من الصلاة والتسليم على هذا النبي الكريم، والمربي الحكيم، الذي هو بالمؤمنين رؤوف رحيم، فما أصدق ما وصفه الصحابي معاوية بن الحكم السلمي بقوله:" بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ"، ونتمثل بقول ابن القيم –رحمه الله-: "فللَّه ما أجلَّ هذه الفتاوى، وما أحلاها، وما أنفعها، وما أجمعها لكل خير، فو اللَّه لو أَن الناس صرفوا هِمَمَهم إليها لأغنتهم عن فتاوى فلان وفلان، واللَّه المستعان".