د. إبراهيم نجم الأمين العام لدور وهيئات الإفتاء في العالم لا يوجد حديث يشغل عقل مفكري الأمة الإسلامية وعلمائها وقادتها مثل حديث تجديد الخطاب الديني بشكل عام وتجديده في مجال الإفتاء بشكل خاص، حيث استفاق العالم خلال السنوات الأخيرة بعد عدةضربات غادرة من الإرهاب على كارثة تكلس وجمود الخطاب الديني والإفتائي وتوقف حركة التجديد عند عصر الإمام محمد عبده ومدرسته العريقة من أمثال الشيخ المراغي والمرصفي وشلتوت وأبو زهرة وعبد الوهاب خلاف وأحمد بك إبراهيم هؤلاء العلماء الأعلام في مصر وأيضا الكثير من العلماء الأفذاذ في المملكة العربية السعودية والمغرب والشام واليمن الذين أثروا الفكر الإسلامي بالعديد من الجهود التي تعد باكورة التجديد في العصر الحديث ، ثم انتشر بعد ذلك خطاب الجماعات المتشددة المهتم بالظواهر والشكل والقشور على حساب المعنى والجوهر والأصول فانعكس توقف حركات البعث والتجديد مع نمو حركة الإسلام السياسي وشيوع خطاب ظاهري متشدد يتباعد بشكل ملحوظ عن جوهر الإسلام وروحه السمحة ويعلي من قيمة المظهر على حساب الجوهر هذا التيار لقي بحكم استغلاله لوسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وربما أيضا بما أغدق عليه من دعم مالي من جهات مشبوهة لقي رواجا بين فئة كبيرة وقطاعات واسعة غيبت عن حقيقة خطاب الإسلام السمح وروحانيته التي تدعو إلى التسامح والتعايش واحترام الخلاف مهما كان نوعه، ومع تصاعد هذه الفئات إلى سدة الحكم السياسي في فترة ما أدركنا جميعا وفي مقدمتنا المؤسسات الدينية خطر الحالة الدينية التي صرنا إليها وأدركنا أزمة الخطاب الديني التي تردت بشكل واضح على أيدي هذه الجماعات المتشددة حيث سيطر خطاب همجي عنيف باسم الإسلام صاحب ذلك الخطاب العنيف انتشار سيل من الفتاوى الشاذة التي تدعو للحرق والقتل واستباحة دماء المخالف وإشاعة الفتن لا بد أن ندرك أيضا أننا في ظل ثورة الاتصالات والمواصلات بات العالم قرية صغيرة متشابكة العلاقات، والأصل في هذه العلاقات بين الناس التعايش لتحقيق صالح الإنسانية؛ وتلك هي خلاصة الأديان سماوية كانت أو وضعية؛ أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وقد قرر القرآن الكريم قاعدة التعايش في أكثر من موضع، على رأسها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}؛ لقد أقر الإسلام تنوع الشعوب واختلافها شريطة أن يكون هذا التنوع ثراء للحياة وزيادة في العطاء وحضًّا على التعايش. إذا تقرر ذلك وأصبح مفهومًا اليوم في ظل المواثيق الدولية التي تحفظ للإنسان حقوقه العامة؛ فلم يعد مقبولًا الإبقاء على فتاوى زمانية أنتجتها عقليات ضاقت عنها ما حققته الإنسانية من تطور. لم يعد مقبولًا اليوم تقسيم العالم ذلك التقسيم القديم إلى دار إسلام ودار كفر، وأن الكافر –سواء كان مكذبًا أو مترددًا أو غافلًا، متصورًا للرسالة أو غير متصور لها- تجب معاداته وبغضه، حتى وإن أعطى المسلمين وأحسن إليهم. وأن دماء الكافر وأمواله حلال للمسلم بدعوى أن الكفار "لم يأذن الله لهم في أكل شيء، ولا أحل لهم شيئًا، ولا عفا لهم عن شيء يأكلونه" ... إلخ ما أفتى به ابن تيمية في معاملة الآخر، متأولًا قوله تعالى: "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالًا طيبًا"، فهذا من تأويلات الجاهلين التي تلقفها الغالون في الدين من السائرين نيامًا خلف فتاوى أقل ما توصف به أنها زمنية، إن ناسبت عصرًا ما فإنها لا تليق بكل العصور. لا بد إذن من تجديد هذا الخطاب، تحقيقًا لمقاصد الشرع وتلبية لمصالح الخلق. وحتى تستوفي قضية التجديد أمرها، كان لا بد من دولة قوية تدعم جهود العلماء العاملين المجددين، وتسن من القوانين ما يفرض هذا التجديد؛ لأن مجموع الناس يميلون إلى ما اعتادوا عليه ويقلقهم التغيير وترهبهم سياط المحافظين المغالين في الجمود، والمجتمع العلمي التقليدي يقع تحت ضغطين: الكسل عن الاجتهاد والتجديد من جهة لعدم الوازع عليه، ومراعاة الرأي العام المتوجس خيفة على دينه من جهة أخرى. فإذا ما توفر لهذا المجتمع سلطان وازع يحض العلماء والمؤسسات على التجديد، ويزيل عن الناس ترهيب الجامدين على القديم؛ أمكن التغيير بفضل الله ورحمته إلى ما يحفظ لهذا الدين رونقه ويبقيه فاعلًا في حياة الناس متفاعلًا مع مستجدات عصرهم، فيكون الدين دافعًا للتقدم والتعايش لا قيدًا على حركة المجتمع وقهرًا لطبيعة الناس، فإن تقييد حركة المجتمع وقهر الناس على عيش زمان لا يعيشونه بالفعل يؤذن بحدوث الفصام بين الناس والدين، فإما هذا أو الطوفان؛ طوفان اللادينية وسيولة القيم الذي يكتسح العالم اليوم. علينا –إذن- أن نقتحم آفاق الشريعة ونبلغ بها أقصى مداها، وهي قادرة بما تتميز به من المرونة والعطاء على خدمة المسلم وتحقيق مصالحه، بغير غير غلو يشل حركته، أو جهل يضيع هويته يبقي أن نقول إن تجديد الخطاب الديني والإفتائي لا يمكن أن يتم بالصورة المثلى دون تعاون كافة الهيئات والمؤسسات الدينية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والإعلامية في هذا الشأن، ومن الخطأ الجسيم اعتبار أن تجديد الخطاب الديني مسؤولية المؤسسات الدينية وحدها بل هو مسؤولية المجتمعات ككل في المقام الأول، ثم تتوزع المهام والوظائف حسب التخصصات فمنها ديني ومنها اجتماعي ومنها تعليمي ومنها أمني ومنها اقتصادي ومنها إعلامي وهكذا كل له دور محدد في منظومة التجديد المنشودة ودار الإفتاء المصرية الآن وهي تسير بخطى واسعة نحو تقديم رؤيا معاصرة مؤصلة لتجديد الخطاب الديني، تضع بعين الاعتبار حاجات الناس الملحة إلى معايشة العصر بروح الشرع، وتحاول من خلال هذه النافذة المباركة أن تتميز في تجديد المفهوم الإفتائي والنظر الشرعي للجمع بين واجب التجديد وملاحقة الواقع ومستجداته وصهر ذلك كله في إصدارة معاصرة تلبي حاجات الباحثين والدارسين في الشأن الفقهي، في الوقت الذي أصبح التجديد فيه ضرورة لا ترف فيها ولا بديل عنها، من أجل ذلك جاء إنشاء الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم منذ ما يقرب من خمس سنوات لتسد هذه الفجوات بمنهجية علمية رصينة وبشكل متزن يواكب الفكر التجديدي للفقه الإسلامي المعاصر.