المفهوم الأول: "أصول الفقه" وعلاقته بعلم "الفقه" وبعملية "الإفتاء"
المفهوم الثاني: الإفتاءُ بين اللغة والشرع
المفهوم الثالث: الاجتهاد
المفهوم الرابع: المذهبية واللامذهبية
المفهوم الخامس: المشقة وما يتعلق بها من أحكام .
المفهوم السادس: الفتوى توقيع عن رب العالمين
المفهوم السابع: في ذكر الفروق بين وظيفة القاضي ووظيفة المفتي
المفهوم الثامن: فقه الواقع
المفهوم التاسع: رفع الحرج
المفهوم العاشر: مفهوم الفقه
المفهوم الحادي عشر: مفهوم التلفيق
المفهوم الثاني عشر: مفهوم العادة
المفهوم الثالث عشر: الحكم الشرعي
المفهوم الرابع عشر: الشرع والشريعة
المفهوم الخامس عشر: مفهوم العلم
المفهوم السادس عشر: مفهوم القياس
المفهوم السابع عشر: مفهوم البدعة والابتداع
المفهوم الثامن عشر: مفهوم السبب
المفهوم التاسع عشر: مفهوم الصحة والفساد والبطلان
المفهوم العشرون: في هل البدعة مقتصرة على العبادات
المفهوم الحادي والعشرون: مفهوم القياس والتخريج
المفهوم الثاني والعشرون: مفهوم الدين
المفهوم الثالث والعشرون: مفهوم فقه الأقليات
المفهوم الرابع والعشرون: مفهوم إثبات الرخص بالقياس
المفهوم الخامس والعشرون: مفهوم إجراء القياس في العبادات
المفهوم السادس والعشرون: مفهوم الاستدلال بالحديث الضعيف في الأحكام
المفهوم السابع والعشرون: مفهوم عموم البلوى
المفهوم الثامن والعشرون: مفهوم الاستدلال بالقواعد الفقهية
المفهوم التاسع والعشرون: مفهوم البدعة الحسنة
المفهوم الثلاثون: مفهوم تفريق الأحكام
المفهوم الحادي والثلاثون: مفهوم التوقف
المفهوم الثاني والثلاثون: مفهوم الرفق بالمستفتي
المفهوم الثالث والثلاثون: مفهوم فقه النوازل وعلاقته بمفهوم الفتوى
----------------------------------------------------------------------
المفهوم الأول: " أصول الفقه" وعلاقته بعلم "الفقه" وبعملية " الإفتاء"
أولاً:
*تعريف أصول الفقه: هو علم بقواعد وقوانين يستطيع بها الفقيه استنباط الأحكام الشرعية المتصلة بأفعال المكلفين من الأدلة التفصيلية. ([1]).
* والموضوعات التي ندرسها في "علم أصول الفقه" هي ثلاثة موضوعات:
أ ـ ندرس في "علم أصول الفقه" معرفة الأدلة الشرعية الكلية من حيثُ كيفية استنباط الأحكام الشرعية الفرعية منها([2]).
ب ـ وندرس فيه كيفية استخراج الأحكام الشرعية من تلك الأدلة.
ج ـ وندرس فيه –أيضًا- صفات المتأهل لاستنباط الأحكام الشرعية من غير المتأهل.
* و"علم أصول الفقه" يستمد مباحثه ومسائله من مباحث علوم اللغة العربية، وبعض العلوم الشرعية، كالفقه والتفسير الحديث، وبعض العلوم العقلية كعلم الكلام والمنطق. ([3]).
* والغرض من دراسة "علم أصول الفقه": اكتساب القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة المتفق عليها - الكتاب والسنة والإجماع والقياس- والأدلة المختلف فيها؛ مثل الاستدلال بقول الصحابي، وبالعرف، وبسدِّ الذرائع، وبالمصلحة، وغيرها.
ومن هنا نعرف أن "علم أصول الفقه" من أهم العلوم التي يجب أن يتقنَها طلابُ العلوم الشرعية، والباحثين فيها، خاصة أولئك الذين يأملون الوصول إلى مرتبة العالمية فيه.
وأنَّ القارئ في علوم الفقه، من غير معرفة عميقة بهذا العلم، ودراسةٍ له من أهل الاختصاص فيه، يقع في خبط وخلط شديدين، وهو من أبعد الناس عن استحقاق اسم "الفقيه"، لاسيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الوقائع الحديثة، والمسائل المستجِدَّة، التي لا مفر من تصدي فقهاء العصر لبيان الحكم الشرعي فيها، فإذا ما أقدَم الجاهل به على الاجتهاد فيها واستنباط حكم شرعيٍّ لها؛ فإنه يخبط خبْطَ عشواء، ويأتي بجهالات و يقع ويوقع في ضلالات، تؤدي إلى فوضى دينية ومجتمعية، ولهذا جعل علماء "أصول الفقه" إتقانه من الشروط المتفق عليها لبلوغ رتبة الاجتهاد.
*وفائدة دراسة "علم أصول الفقه" وتحقيق قواعده وإتقانها، تؤدي إلى صحة استنباطه للأحكام الشرعية العملية، والتوفيق في اجتهاده. [5]).
* وأول تأليف ظهر في "علم أصول الفقه" هو كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي -رضي الله عنه-؛ فقد كان فتحًا علميًّا عظيمًا؛ حيث جمع فيه بين مزايا مدرسة أهل الرواية ـ أهل الحديث ـ، ومدرسة أهل الرأي ـ أهل القياس ـ فوفَّقَه اللهُ تعالى إلى الجمْعِ بين مزايا هاتين المدرستين، فضاقت بكتابه هذه الفجوةُ بينهما؛ ولهذا لقيَ كتابُه "الرسالة" القبولَ والترحيب من أئمة المدرستين، وكان مِثالًا يُحتَذَى لمن كتب بعده في "علم أصول الفقه".
* الداعي إلى وضع علم "أصول الفقه":
وقد دعاهم إلى تكوين هذا العلم، أنهم نظروا في تفاصيل الأحكام، وأحوال الأدلة وعمومِها، فوجدوا الأدلة راجعة إلى الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ووجدوا الأحكام راجعة إلى الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة.
ثم تأملوا في كيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك الأحكام ـ إجمالا من غير نظر إلى تفاصيلها إلا على سبيل التمثيل ـ فتحصَّلت لديهم قضايا كلية متعلقة بكيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك الأحكام ـ إجمالاً ـ وبيانِ طرق هذا الاستدلال وشرائطه؛ ليُتوصل بكلٍّ من تلك القضايا إلى استنباط كثير من الأحكام الجزئية من أدلتها التفصيلية، ثم قاموا بضبطها، وتدوينها على هيئة قواعد كلية، وأضافوا إليها بعض الملحقات والمكمِّلات التي لا غنى عنها، ومن ثَمَّ أسمَوا العلم المتعلق بها بـ "أصول الفقه". ([6]).
*حكم دراسة علم "أصول الفقه": الأصل أن دراسة علم "أصول الفقه" فرض على الكفاية ـ إذا درسه بعض الطلبة سقط الحرج عن الباقين ـ ولكن قد تكون دراسته فرض عين على بعض الأشخاص عند الحاجة إليه، وحينما لا تتأتى دراسته من غيرهم على وجه تتحقق به الكفاية.
ثانياً: العلاقة بين علم "أصول الفقه" وعلم "الفقه" وصناعة " الإفتاء".
* علاقة علم "أصول الفقه" بعلم " الفقه":
العلاقة بين هذين العلمي تتوفق على معرفتنا بتعريفهما، فكما قد عرفنا أن علم "أصول الفقه" هو: علم بقواعد وقوانين يستطيع بها الفقيه استنباط الأحكام الشرعية المتصلة بأفعال المكلفين من الأدلة التفصيلية. فإنَّ علم "الفقه" هو: معرفة تلك الأحكام الشرعية العملية التي تستنبط من الأدلة التفصيلية.
وعليه فإنَّ علم "أصول الفقه": هو الوسيلة التي يستخدمها الفقيه ليستخرج بها الحكم من الدليل التفصيلي.
ولنضرب لذلك مثالاً حسياً يقرِّب هذا المعنى من الأذهان: وهو أن استخراج الماء من البئر يتطلب آلة بها يستخرج الماء، وتلك الآلة هي: الحبل، والدلو، والكيفية التي يستخرجه بها.
فكذلك الفقيه حينما يريد استنباط حكمٍ شرعيٍّ من مصادره، لا بد له ـ حينئذٍ ـ من أدوات علمية تمكنه من التعامل الصحيح والدقيق مع تلك المصادر، وحتى يتأتى له أن يكون استنباطه لتلك الأحكام الشرعية منها استنباطاً صحيحاً.
فمن هذه الأدوات العلمية ـ وهي كثيرة ـ: علوم اللغة العربية، وما استمد منها من مباحث علم "أصول الفقه" وهي مباحث: الأدلة الكلية، والتي تُعدُّ القسم الأول من أقسام علم "أصول الفقه". فهي كالحبل والدلو، في مثال استخراج الماء من البئر.
ثم لا يكفي أن تتوفر الأدوات العلمية لدى الفقيه، بل لا بد من واسطة أخرى يستخلص بها الحكم، وهي: كيفية الاستدلال بالأدلة على الأحكام، وهي القسم الثاني من الأقسام علم "أصول الفقه".
والخلاصة مما سبق تتضح في أن علم "الفقه": هو المعرفة للأحكام الشرعية المرتبطة بأفعال المكلفين، وأنَّ علم "أصول الفقه" أساس معرفتنا بعلم "الفقه" وأقرب الوسائل للمعرفة به وأخصها وألصقها. ([7]).
* علاقة علم "أصول الفقه" بعملية "الإفتاء":
تظهر علاقة علم "أصول الفقه" بعملية "الإفتاء" من خلال تحليل لمكونات عملية "الإفتاء" والتي هي ثلاثة مكوِّنات: مفتي، ومستفتي، وفتوى.
ومن خلال قراءتنا لما كتب في علم "أصول الفقه" نجد العلماء قد أشبعوا الكلام في المباحث المتعلقة بـ " المفتي والمستفتي والفتوى" في القسم الأخير من أقسام علم "أصول الفقه"، فقد تعرضوا لمباحث " المفتي": من حيث: تعريفه، وبيان شروطه، وذكرهم لأقسام المفتين، وبعض الأحكام المتعلقة بالمفتي.
وأما "المستفتي" فقد تعرضوا له بذكرهم لآداب الاستفتاء، كما تعرضوا لبعضِ الأحكام المتعلقة به أيضاً.
وبالنسبة للمباحث المتعلقة بـ "الفتوى" فلا تخلو كتب الأصول من التعرض لبعض المباحث المتعلقة بها.
وعليه فيتبيَّن لنا أن الحديث عن عملية الإفتاء جزء مهم أصيل من علم "أصول الفقه".
وقد أشار شيخنا العلَّامة الأستاذ الدكتور/ علي جمعة ـ مفتي الديار المصرية ـ إلى أن عملية الإفتاء رغم ما نالته من عناية الأصوليين بالحديث عنها، إلا أنها لما تنلْ ما تستحقه من الاهتمام خاصة من جانب فقه الواقع.
هذا وتظهر العلاقة بين علم "أصول الفقه" وعملية "الإفتاء" ـ أيضاً ـ عند الحاجة إلى الإفتاء في المسائل الجديدة التي لم يتعرض لها الفقهاء السابقون؛ حيث لا يستغني المفتي ـ حينئذٍ ـ عن الاستعانة بعلم "الأصول" في عملية الاستنباط لحكمٍ شرعيٍّ لهذه المسائل النازلة المستجدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) أبجد العلوم (2/70) ط: دار الكتب العلمية، الموسوعة الفقهية، مادة (أصل)، مقدمة ابن خلدون (ص436) ط: دار القلم.
([2]) المرجع السابق.
([3]) المرجع السابق.
([4]) المرجع السابق.
([5]) المرجع السابق.
([6]) المرجع السابق.
([7]) ينظر لزيادة التوضيح والتمثيل: مقدمة البحر المحيط للزركشي (1/ 22) بتصرف يسير.
****************************************************** ***************
* معاني الإفتاء ومشتقاته، في اللغة:
1ـ الإفتاء لغة: هو الإبانة عن الأمر، ورفع الإشكال عنه. يقال: أَفْتَى الرجلُ في المسأَلة: إذا أجاب فيها، واسْتفتيته فيها: إذا طلبت منه الإجابة عن الأمر المشكل. ويقال: أفتيتُ فلانًا رؤيا رآها: إذا عبَّرتُها له، ([1])، ومنه قوله تعالى حاكيًا: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ﴾([2]).
2ـ والفتوى: بمعنى الإفتاء، وهي: الإبانة عن الأمر ورفع الإشكال عنه. وتجمع على: الفتاوَى والفتاوِي.
3ـ والفُتيا: تبيين المُشكِل من الأحكام. 4ـ والتفاتي: التخاصم، وتفاتَوا إلى فلان: تحاكموا إليه، وارتفعوا إليه في الفُتيا.
5ـ والاستفتاء: طلب الجواب عن الأمر المشكل، ومنه قوله تعالى : ﴿وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾([3]). ، وقد يكون الاستفتاء بمعنى: مجرد السؤال، ومنه قوله تعالى: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا﴾([4])، قال المفسرون: أي: اسألهم([5]).
6ـ والمفتي في اللغة: هو المجيب عن سؤال المستفتي.
7ـ والمستفتي: هو السائل الذي يسأل المفتي عمَّا أَشكل عليه. * مشتقات لفظة الإفتاء في القرآن الكريم([6]): ورد ذكر بعض مشتقات الإفتاء في القرآن الكريم في تسع آيات كريمات، كلها تحمل معنى السؤال عمَّا أُشكل من سائر الأمور الدينية والدنيوية، وهذه الآيات هي: اثنتان في سورة النساء بمعنى: الاستفتاء في أمور الدين، هما:
ـ قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾([7])،
ـ وقوله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾([8]). وثلاث في سورة يوسف بمعنى: تفسير الرؤيا، وهذه الآيات وهي:
ـ قوله تعالى: ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾([9])،
ـ وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾([10])،
ـ وقوله تعالى: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ﴾([11]). وواحدة في سورة الكهف بمعنى (مطلق) السؤال، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾([12]) وهي هنا في حالة النهي بمعنى: لا تسأل: أي: ولا تسأل أحدًا منهم عن قصتهم: سؤال مسترشد، فإنَّ فيما أوحي إليك لمندوحة عن غيره، مع أنه لا علم لهم بها، ولا سؤال متعنت: تريد تفضيح المسؤول عنه وتزييف ما عنده، فإنه مُخِلٌّ بمكارم الأخلاق"([13]). وآية في سورة النمل بمعنى طلب النصح والمشورة، وهي قول الله تعالى على لسان بلقيس: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي﴾([14]). والآيتان الأُخريان في سورة الصافات بمعنى: السؤال المتعنت المطلوب من خلاله تفضيح المسؤول عنه وتزييف ما عنده؛ لأن الأمر هنا يتصل بموقف التحدي الذي وقفه الكفار من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهما:
ـ قوله تعالى: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا﴾([15])،
ـ وقوله تعالى: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ﴾([16]). * مشتقات لفظة الإفتاء في الحديث الشريف([17]): وردت مشتقات لفظة "الإفتاء" في الحديث النبوي في أكثر من ثمانمئة مرة، نذكر منها:
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (الإثْمُ ما حَاكَ في القلب، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتَوك)[18]). أي: وإن جعلوا لك فيه رخصة وأجازوه. وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (من أُفْتِى بفُتيا غير ثَبْتٍ؛ فإنما إثمه على مَنْ أفتاه). وفي رواية: (على الذي أفتاه)، وفي رواية أخرى: (من أُفتي بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه).([19]) وهي هنا ـ أيضًا ـ بمعنى الرخصة أو الإجازة، فمن رخص لشخص أن يأتي عملاً ما وهو غير متثبت من صحة الرخصة، فإن ارتكب المستفتي ذنبًا بموجب هذه الفتوى؛ فإن إثمه على المفتي. ومن الأحاديث ـ أيضًا ـ ما روي: (من أنَّ أربعة تَفَاتَوا إليه عليه السلام)، أي: تحاكموا إليه، وطلبوا منه الفتوى([20]). ومنها ـ أيضا ـ قوله صلى الله عليه وسلم: (من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض) ذكره ابن الجوزي في "تعظيم الفتوى"([21]). ومنها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبقَ عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا). ([22]) * الإفتاء ومشتقاته في الاصطلاح:
تتقارب المعاني الاصطلاحية للإفتاء ومشتقاته مع المعاني اللغوية المتقدمة.
ـ فالإفتاء في الاصطلاح: (الإخبار عن حكم شرعي، لا على وجه الإلزام).
وفائدة القيد الأخير (لا على وجه الإلزام) تمييز الإفتاء عن القضاء؛ لأن أظهر الفروق بينهما: أن فتوى المفتي غير ملزمة للمستفتي، بخلاف قضاء القاضي فهو ملزِم للمحكوم عليه، وهناك فروقاً أخرى تذكر في موضعها.
ـ والفتوى: عرفها بعض العلماء بأنها: (تبيين الحكم الشرعي لمن سأل عنه).
والخلاصة: أنَّ معنى الفتوى والفتيا في الاصطلاح هو: إخبار المفتي بالحكم الشرعي للواقعة المسؤول عنها. وهو لا يختلف عن معنى الإفتاء. ومن تعريف الإفتاء والفتوى نعلم التالي :
ـ المفتي هو المخبر بالحكم الشرعي للواقعة المسؤول عنها.
وفي المعجم الوجيز: "المُفْتِي: فقيهٌ تُعَيِّنه الدولةُ ليُجيبَ عمَّا يُشكل من المسائل الشرعية". والجمع: مُفْتُونَ.
ودار الإفتاء، ودار الفتوى: مكان المفتي"([23]). ـ والمستفتي هو: السائل عن الحكم الشرعي للواقعة. ________________________________________ [1] - لسان العرب لابن منظور، القاموس المحيط للفيروآبادي، الموسوعة الفقهية. [2] - سورة يوسف آية/ 43. [3] - سورة الكهف آية/ 22. [4] - سورة الصافات آية/ 11. [5] - تفسير القرطبي 15/ 68، وتفسير ابن كثير 4/ 3، ط عيسى الحلبي، الموسوعة الفقهية. [6] - من كتاب الإفتاء المصري، ص 77- 79، بتصرف. [7]- سورة النساء، الآية: 127. [8]- سورة النساء، الآية: 176. [9]- سورة يوسف، الآية: 41. [10]- سورة يوسف، الآية: 43. [11]- سورة يوسف، الآية: 46. [12]- سورة الكهف، الآية: 22. [13]- البيضاوي، ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، المعروف بتفسير البيضاوي، المطبعة العثمانية، 1329هـ، ص 390. [14]- سورة النمل، الآية: 32. [15]- سورة الصافات، الآية: 11. [16]- سورة الصافات، الآية: 149. [17]- من كتاب الإفتاء المصري. [18]- رواه أحمد في مسنده 4/194، والدارمي في البيوع والرقائق، ورواه غيرهما كالبزار والطبراني وأبو يعلى، وحَسَّنه النووي، وورد في صحيح مسلم بلفظ ((والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)). [19]- رواه أحمد، وابن ماجه، وأبو داود. [20]- الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية، 1/ 8. [21]- ابن حمدان، أحمد بن حمدان النمري الحراني الحنبلي: صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، تحقيق محمد ناصر الدين، ط3، المكتب الإسلامي، بيروت، 1397هـ، ص 5- 6. [22]- ابن حمدان: صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، ص 6. وقال: حديث حسن. [23]- مجمع اللغة العربية: المعجم الوجيز، طبعة وزارة التربية والتعليم، القاهرة، 1413هـ/ 1992م، ص 462.
***************************************************
المعنى اللغوي والاصطلاحي: في اللغة: الجَهْدُ والجُهْدُ الطاقة، وقيل: الجَهْد المشقة، والجُهْد الطاقة، والجَهْدُ ما جَهَد الإِنسان من مرض أَو أَمر شاق، فهو مجهود قال: والجُهْد لغة بهذا المعنى، وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة، وجَهَدَ يَجْهَدُ جَهْدًا واجْتَهَد كلاهما جدَّ وجَهَدَ دابته جَهْدًا وأَجْهَدَها بلغ جَهْدها[1]. وسواء كان ذلك في معرفة حكم شرعي اعتقادي أو عملي، أو معرفة حكم لغوي أو مسألة عقلية، أو كان في أمر محسوس كحمل شيء[2]. الاجتهاد في الاصطلاح: بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني[3]. ومن هنا يتبين لنا أن الاجتهاد لا يكون إلا في المسائل الظنية. وهو بهذا المعنى يتفق مع الفقه في أكثر مسائله، وإن كان الفقه يتناول بالمعنى الذي ذهب إليه الفقهاء الأحكام القطعية التي تتناول الأفعال، كقولهم: الصلاة واجبة، إلى غير ذلك[4]. ومفهوم الاجتهاد من أهم المفاهيم التي تشهد حالة من تعثر الفهم أحيانًا ومن الانتشار والتشتت أحيانًا أخرى؛ وذلك لما يسود الحالة الثقافية من اختلاط لمدلول هذا المفهوم بمدلولات مفاهيم أخرى. فليس الاجتهاد مجرد إعمال للعقل فقط كما قد يظهر للبعض ولو بغير أدوات علمية، وليس الاجتهاد مرادفًا للإبداع المطلق كما في اصطلاح بعض المثقفين اليوم، وإنما الاجتهاد هو بذل الوسع والطاقة لتحصيل حكم شرعي كما سبق، ومن ثم فإنه عملية مركبة تحتاج إلى إدراك الواقع وفهم النصوص فهمًا عميقًا، ثم المزاوجة بين النص والواقع في تنزيل النص على الواقع من غير تقصير في تنفيذ النصوص الشرعية، ولا غياب عن الواقع الفعلي، ولا تضيق على المكلفين في أمر دينهم، كل ذلك تحقيقًا لأمر الله تعالى من عباده بتنفيذ أحكامه واجتناب نهيه والتزام أمره. والاجتهاد هو ملكة داخلية يجدها المجتهد في نفسه، فهو ليس فقط أدوات يحصلها المجتهد، وإنما أيضًا هو ملكة تحصل في نفس المجتهد يرى بمقتضاها رؤى جديدة في الأحكام الإسلامية لا يستطيع لها دفعًا طبقًا لما يراه في واقعه، الذي يختلف عن واقع غيره من المجتهدين من خلال الرباعية التي بها تتغير الأحكام: الزمان والمكان والأشخاص والأحوال. وبهذا المفهوم فإن باب الاجتهاد مفتوح لكل من حصل شروط الاجتهاد، وتكونت فيه هذه الملكة المتحدث عنها. ويختلف الاجتهاد عن التجديد في الخطاب الديني الذي يشتمل تجديد المحتوى وطريقة العرض والنصوص والمفاهيم وغيرها من مكونات الخطاب، والتي قد يخلط غير المختصين بينها وبين الاجتهاد. وقد يسبب هذا الخلط نوعًا من اللبس في أذهان العامة والمثقفين، باعتقاد أن الاجتهاد عملية بسيطة تعتمد على الذكاء أو مجرد التفكير الحر. والاجتهاد عبادة يثاب عليها المجتهد؛ فعن أبي قيس، مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر))[5]. فالمجتهد على كل حال مثاب؛ في حالة الصواب له أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وفي حالة الخطأ له أجر الاجتهاد، قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب لا على الخطأ[6]. ولفظة "الحاكم" في الحديث عامة تتناول المجتهد في شؤون الدولة وهو صاحب الولاية كالرئيس والقاضي، وفي شأن الدين وهو الفقيه، شريطة أن يكون قد حصل له رتبة الاجتهاد حقيقة، قال ابن بطال: وإنما يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالـمًا بالاجتهاد والسنن[7].
الاجتهاد والمصطلحات المشابهة: من المصطلحات التي تشارك الاجتهاد في ذات الحقل الدلالي، ولكنها في نفس الوقت تختلف في مقصودها عنه، مصطلح الاستنباط وهو: استخراج الحكم أو العلة إذا لم يكونا منصوصين ولا مجمعا عليهما بنوع من الاجتهاد فيستخرج الحكم بالقياس، أو الاستدلال، أو الاستحسان، أو نحوها، وتستخرج العلة بالتقسيم والسبر، أو المناسبة، أو غيرها مما يعرف بمسالك العلة[8]. ويتضح من ذلك أن بين عملية الاجتهاد وعملية الاستنباط نوع تداخل، وإن كان الاستنباط في طريق الاجتهاد، فكأنه أداة من أدوات الاجتهاد. ومثل الاستنباط في ذلك: "القياس" الذي عرفه الأصوليون: بكونه مساواة فرع لأصل في علة الحكم، أو زيادته عليه في المعنى المعتبر في الحكم، وقيل: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما بجامع حكم أو صفة أو نفيهما[9]، فهو أيضا بمثابة عملية وأداة من أدوات الاجتهاد. ومن القواعد الشهيرة المتعلقة بالاجتهاد، قاعدة: "لا اجتهاد مع النص ..."، ولا تعني: لا اجتهاد في فهم النص، كما يظن البعض، بل المراد: لا اجتهاد مع وجود النص القطعي الذي يدل على معنى واحد ولا يحتمل معنى سواه، أما لو كان اللفظ يقبل التفسير باحتمالات متعددة فهنا يكون لعقل الفقيه مجال في النظر؛ من أجل ترجيح بعض هذه الاحتمالات على بعض. حكم الاجتهاد: الاجتهاد فرض كفاية؛ إذ لا بد للمسلمين من استخراج الأحكام لما يحدث من الأمور. ويتعين الاجتهاد على من هو أهله إن سُئل عن حادثة وقعت فعلا، ولم يكن يوجد غيره ينهض لها، وضاق الوقت بحيث يخاف من وقعت به فواتُها إن لم يجتهد من هو أهلٌ لتحصيل الحكم فيها. وقيل: يتعين أيضًا إذا وقعت الحادثة بالمجتهد نفسه، وكان لديه الوقت للاجتهاد فيها. وهذا رأي الباقلاني والآمدي وأكثر الفقهاء. وقال غيرهم: يجوز له التقليد مطلقًا، وقال آخرون: يجوز في أحوال معينة. شروط الاجتهاد: قال تعالى:﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾[10]، قال الإمام الشافعي فيما رواه عنه الخطيب: لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله، إلا رجلا عارفًا بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيّه ومدنيّه، وما أُريد به، ويكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي[11]. ونقل ابن القيم قريبًا من هذا عن الإمام أحمد. ومفهوم هذه الشروط: أن فتيا العامي والمقلّد الذي يفتي بقول غيره لا تسمي " اجتهادًا"، وإنما هو نقل لاجتهاد مجتهد آخر[12]. درجات الاجتهاد: الاجتهاد قد يكون مطلقًا كاجتهاد الأئمة الأربعة ومثلهم الإمام الأوزاعي بالشام، والليث بن سعد بمصر، وابن أبي ليلى والثوري بالعراق. وضابط المجتهد المطلق "وهو من حصَّل شروط الاجتهاد كاملةً، وأسَّس لنفسه أصولاً وقواعد خاصة به، واستنبط أحكام الفروع من تلك الأصول معتمدًا على القرآن الكريم والسنة والإجماع والقياس، وما يتعين لديه الأخذ به من غيرها"[13]. يضاف إلى ذلك بلوغ الدرجة القصوى في إدراك الواقع والتعمق في فهم النصوص الشرعية مع سعة أفق التفكير المستقبلي. وقد يكون الاجتهاد غير مطلق بأن يكون الاجتهاد داخل المذهب، ويعرف هذا بمجتهد المذهب، وهؤلاء المجتهدون لا يختلفون مع أئمتهم لا في الأصول ولا في الفروع، ولكن يخرجون المسائل التي لم يرد عن الإمام وأصحابه رأي فيها، ملتزمين منهج الإمام في استنباط الأحكام. وربما يخالفون إمامهم في المسائل المبنية على العرف. ويعبرون عن هذه المسائل بأنها ليست من قبيل اختلاف الدليل والبرهان، ولكن لاختلاف العرف والزمان، بحيث لو اطلع إمامهم على ما اطلعوا عليه لذهب إلى ما ذهبوا إليه. وهؤلاء هم الذين يعتمد عليهم في تحقيق المذهب وتثبيت قواعده وجمع شتاته. وممن عدوا في هذه الطبقة كمجتهدي مذهب:
من الحنفية: أبو منصور الماتريدي، وأبو الحسن الكرخي، والجصاص الرازي، وأبو زيد الدبوسي، وشمس الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة السرخسي. ومن المالكية: أبو سعيد البرادعي، واللخمي، والباجي، وابن رشد، والمازري، وابن الحاجب، والقرافي. ومن الشافعية: أبو سعيد الإصطخري، والقفال الكبير الشاشي، وحجة الإسلام الغزالي. ومن الحنابلة: أبو بكر الخلال، وأبو القاسم الخرقي، والقاضي أبو يعلى الكبير[14]. الاجتهاد والإفتاء: "الإفتاء" يكون فيما علم قطعًا أو ظنًّا، أما "الاجتهاد" فلا يكون في القطعي(3). و" الاجتهاد" يتم بمجرد تحصيل الفقيه الحكم في نفسه، ولكن لا يتم الإفتاء إلا بتبليغ الحكم للسائل. والذين قالوا: إن المفتي هو المجتهد، أرادوا بيان أن غير المجتهد لا يكون مفتيًا حقيقةً، وأن المفتي لا يكون إلا مجتهدًا، ولم يريدوا التسوية بين الاجتهاد والإفتاء في المفهوم[15]. ومن جهة أخرى، يظهر الترابط الشديد بين مفهوم "الاجتهاد" ومفهوم "الفتوى"، ولا أدل على ذلك من اشتراط بعض العلماء في المفتي أن يكون قد حصل رتبة الاجتهاد، فهو من المفاهيم المحورية في عملية الإفتاء، وإن كنا نرى أن العملية الإفتائية يُكتفى فيها بالفقيه الذي حصل رتبة فهم النصوص الشرعية والتراث الفقهي، ونرى أنه يجوز له أن يقلد الأئمة المتبوعين في الفتوى. ------------------------------------ [1] لسان العرب 3/ 133. [2] الموسوعة الفقهية الكويتية 1/ 18. [3] التقرير والتحبير علي تحرير الكمال بن الهمام 3/ 291،ومسلم الثبوت شرح فواتح الرحموت 2/ 336. [4] الموسوعة الفقهية الكويتية (1/ 18). [5] صحيح البخاري 9/ 108. [6] شرح صحيح البخاري لابن بطال 10/ 381. [7] شرح صحيح البخاري لابن بطال 10/ 381. [8] الموسوعة الفقهية الكويتية 4/ 111. [9] الموسوعة الفقهية الكويتية 34/ 91. [10] الأعراف: 33. [11] الموسوعة الفقهية الكويتية 32/ 27. [12] الموسوعة الفقهية الكويتية 1/ 317 بتصرف. [13] الاجتهاد ومدى الحاجة إليه في الشرع الإسلامي ص 39. [14] الموسوعة الفقهية الكويتية 1/ 34 بتصرف كبير. [15] الموسوعة الفقهية الكويتية 1/ 318.
*******************************************
تُعَدُّ المذاهب الفقهية من العلامات البارزة في تاريخ الفقه الإسلامي، والركنَ الركين الذي حافظ على هذا العلم وفق معايير ثابتة وواضحة على مدى القرون المتطاولة، ومع ذلك يسعى البعض بدعاوى مختلفة "كإطلاق حرية الفكر وعدم التحجر والانغلاق وفتح باب الاجتهاد إلى نبذ هذه المذاهب وإطلاق العنان لكل أحد في النظر المباشر إلى نصوص الكتاب والسنة واستنباط الأحكام منها، فكيف يكون التقييم الموضوعي لقضية المذهبية واللامذهبية؟
هذا ما تسعى السطور التالية للإجابة عنه. تعريف المذهب والمذهبية واللامذهبية: المذهب مصدر ميمي لفعل (ذهب)، والمذهب: المعتقد الذي يُذْهَب إليه، وذهب فلان لذَهَبِه أي لمذهبه الذي يذهب فيه، والمذهب: الطريقة، يقال: ذهب فلان مذهبًا حسنًا، أي: طريقة حسنة([1])، وتقول: ذهب فلان إلى قول أبي حنيفة، أي: أخذ به واتبع طريقته، والمذاهب الفقهية، هي تلك الآراء التي تركها لنا كبار الأئمة واعتنى بها تلاميذهم، وفصَّلوا القول فيها، وعملوا على توضيح آراء أئمتهم والانتصار لها عن طريق دعمها بطرق الاستدلال المختلفة، وشملت أيضًا هذه المذاهب اجتهادات عديدة بُنيت على قواعد أئمة هذه المذاهب وطرق استنباطهم.
والمذهبية: أن يقلد العامي أو من لم يبلغ رتبة الاجتهاد مذهب إمام مجتهد سواء التزم واحدًا بعينه أو عاش يتحول من واحد إلى آخر.
واللامذهبية: هي أن لا يقلد العامي أو من لم يبلغ رتبة الاجتهاد أي إمام مجتهد، لا ملتزمًا ولا غير ملتزم([2]).
نشأة المذاهب الفقهية: تعد المذاهب الفقهية وبحق مدارس فكرية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، من حيث البناء والاستمرار ومناهج التفكير وقواعده وأدوات الاستدلال والتحليل والاستنباط، فالمذاهب الفقهية الإسلامية، لا تدنو عن مستوى مذاهب الفلسفة المختلفة، أو مذاهب الطب والهندسة والعمارة، بل تتفوق عليها في الغالب من حيث خدمة أتباعها لها وانتشارها في مختلف الأقطار ورصانة مستواها العلمي وزمن استمرارها لما يتجاوز الألف عام، وغير ذلك من عوامل تميز المذاهب الفقهية.
وقد نشأت هذه المذاهب على أيدي أئمة عظام لا يختلف على علمهم وتمكنهم من أدوات النظر والاستدلال والاستنباط أحد، وقد قيَّض الله تعالى لهؤلاء الأئمة التلاميذ النجباء المخلصين الذين شاركوا أئمتهم في إقامة بنيان هذه المذاهب ونشرها في مختلف الأقطار والأرجاء، واستمرت هذه المذاهب حتى يومنا هذا تحفظ على الناس دينهم، وتحفظ علم الفقه حيًّا نابضًا متفاعلا مع مستجدات العصر وتطور الزمان وفق أصول شرعية وضوابط علمية، ما كان لنا أن نحتفظ بها طيلة هذه القرون لولا وجود المذاهب الفقهية في الأمة وعلى مدى اتساعها.
ولقد تلقى الصحابة رضوان الله عليهم أحكام الشرع الشريف من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكانوا يفهمون مراده ويطمئنون إلى ما يفعلون بسبب قربهم من رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ووجود القرائن والأمارات الدالة على تحديد المراد من أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم من غير التفات إلى طرق الاستدلال، ثم تفرق الصحابة في البلاد ونشروا العلم فيها، وكثرت الوقائع واستجدت حوادث، فاستفتوا فيها، فأجاب كل واحد حسب ما حفظه أو استنبطه، فإن لم يجد مما حفظه أو استنبطه ما يصلح للجواب اجتهد برأيه وعرف العلة التي أدار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عليها الحكم فيما سمع من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اختلفت آراء الصحابة رضوان الله عليهم، وتعددت أسباب اختلافهم، ومنها سماع بعضهم دون آخرين، أو حمل التوجيه النبوي على الاستحباب أو الإباحة، أو تصور بعضهم تفسير فعل النبي صلى الله عليه وسلم بحسب المشهد الذي رآه منه، وقد يختلفون في علة تحديد الحكم، ثم جاء التابعون وساروا على مناهج الصحابة وآرائهم وجمعوا بينها، وصار لكل عالم من علماء التابعين مذهب، واشتهر منهم أئمة كبار، مثل: سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر بالمدينة، وعطاء بن أبي رباح بمكة، وإبراهيم النخعي والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، وغيرهم في مختلف البلاد.
وكان هؤلاء التابعون شيوخ من ظهر بعدهم من أئمة المذاهب الفقهية المشهورة، فأخذ أبو حنيفة [80 - 150 هـ] عن إبراهيم النخعي وأقرانه ولا يكاد يخالفه إلا في مواضع يسيرة، وهذه المواضع اليسيرة لا يخرج فيها عما ذهب إليه فقهاء الكوفة، وقد جمع أبو حنيفة علوم هؤلاء ودوَّنها بعد أخذ وردٍّ سديدين في المسائل بينه وبين أفذاذ أصحابه في مجمع فقهي كيانه من أربعين فقيها من نبلاء تلاميذه المتبحرين في الفقه والحديث وعلوم القرآن والعربية، كما نص على ذلك الطحاوي وغيره، وكان أشهر أصحابه ذكرًا أبا يوسف الذي تولى قضاء القضاة أيام هارون الرشيد، فكان سببًا لظهور مذهبه والقضاء به في أقطار العراق وخراسان والهند وأفغانستان وتركستان وباكستان وغيرها من دول الاتحاد السوفيتي سابقًا.
ونشأ مالك [93 أو 95 – 179 هـ] في بيئة تشتغل بعلم الحديث فجده مالك بن أبي عامر من كبار التابعين وعلمائهم روى عن عمر وعثمان وطلحة وعائشة، وروى عن عامر بنوه ومنهم أنس أبو مالك، وربيع ونافع وهو من شيوخ ابن شهاب الزهري، وكان مالك لما لازم العلماء يعرف بأخي النضر لشهرة أخيه بمجالستهم حتى اشتهر مالك عنه، فهذه أسرة مالك وبيئته التي نشأ فيها، وممن جلس إليهم من علماء المدينة ينهل من علومهم ويأخذ عنهم حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ربيعة الرأي وابن هرمز ونافع – مولى ابن عمر – وابن شهاب الزهري وتلقى فتاوى الصحابة عمن أدركهم ومن لم يدركهم من التابعين، وتابعي التابعين، فتلقى فتاوى عمر وابن عمر وعائشة وغيرهم من الصحابة، وتلقى فتاوى سعيد بن المسيب وغيره من كبار التابعين الذين لم يدركهم، فقد كان – رضي الله عنه - من أكثر الناس علمًا بحديث أهل المدينة وأقوال عبد الله بن عمر وعائشة وفقهاء المدينة السبعة، قال رحمه الله عن جلوسه للتدريس والإفتاء: ما جلست حتى شهد لي سبعون شيخًا من أهل العلم أني موضع ذلك، وينتشر مذهب مالك في معظم دول إفريقيا والمغرب العربي، وكان مذهبه مذهب أهل الأندلس.
وذهب الشافعي [150 – 204 هـ] بعد مولده في غزة أو اليمن على اختلاف في الروايات إلى مكة وهو ابن عشر سنين ليستقر هناك ويتثقف بثقافة أهله وذويه، وكان مغرمًا بالعلم منذ نعومة أظفاره، وروى الموطأ عن مالك ولزمه يتفقه عليه، ثم درس فقه العراقيين وقرأ كتب محمد بن الحسن - صاحب أبي حنيفة – وتلقاها عليه، وقد أخذت شخصية الشافعي تظهر بفقه جديد، حيث عاصر ظهور المذهبين الحنفي والمالكي وترتيب أصولهما وفروعهما فنظر في صنيع المذهبين فلم يتوافق مع بعض ما اشتمل عليه منهجهما في التعامل مع الأدلة وطرق الاستنباط فاختطَّ لنفسه منهجًا آخر يتوافق مع ما وصل إليه الوضع العلمي في زمنه من توثيق للأحاديث وجمع كثير من النقول عن الصحابة والتابعين، فأسس الأصول الخاصة بمذهبه واجتمع عليه الفقهاء ونشروا بعد ذلك مذهبه في مختلف الأقطار، خصوصًا في جنوب شرق آسيا وغيرها من البلاد([3]).
ونشأ الإمام أحمد بن حنبل [164-241 هـ]([4]) في بغداد وتتلمذ على يد الشافعي وتلقى العلم في البداية على يد أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وأخذ الحديث حين كان صغيرًا على يد هشيم بن بشير بن أبي خازم الواسطي، ثم عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني باليمن، ولعدم رغبة الإمام أحمد في تدوين مذهبه، لم يُحفظ بالقدر الكافي كما حدث مع المذاهب السابقة، وتعددت الآراء فيه كثيرًا، وتركز وجوده في الجزيرة العربية وبعض المناطق الأخرى، ولكن دون انتشار واسع.
إن كل هذه التسلسل من الأئمة والتابعين ثم الصحابة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يؤكد مدى اتصال هذه المذاهب وتراثها الفقهي بالمنهج النبوي، وهذه الخلفية عن أئمة المذاهب الفقهية تؤكد لنا بما لا يدع للشك مجالا كيف أن تقليد مذاهبهم ليس فيه مخالفة للكتاب والسنة، بل إنه الطريق الصحيح للسير على منهج الكتاب والسنة، فهذه المذاهب حظيت بعناية علمية شديدة، ساهمت في تأصيل وحفظ علم الفقه وإثرائه باجتهادات علماء هذه المذاهب على مر العصور، كما سيأتي، فلا يجوز بحال أن يدَّعِي مُدَّعٍ بأن تقليد هذه المذاهب يُعَدُّ خروجًا عن الطريق الصحيح لتلقي علوم الشرع الشريف.
لقد اعتنى كثير من علماء المذاهب الفقهية بذكر أحاديث الأحكام التي استند إليها علماء المذاهب في الاستدلال على آرائهم واجتهاداتهم، وهذه المؤلفات أثبتت بما لا يدع مجالا للشك، أن كل هذه المذاهب لم تألُ جهدًا في تحري المنهج النبوي وما أطلق علماء المذاهب آراءهم واجتهاداتهم إلا بعد دراسة وتمحيص عن الآثار النبوية المروية في محل البحث، ووفقًا لمنهج صارم لا يتخلف عند كل إمام.
من هذه الكتب التي تتحدث عن أدلة الأحكام المستنبطة في المذاهب من السنة: (التمهيد لما في الموطَّأ من المعاني والأسانيد) لابن عبد البر في المذهب المالكي، (شرح معاني الآثار) لأبي جعفر الطحاوي و(إعلاء السنن) للتهانوي في المذهب الحنفي، (السنن الكبرى) للبيهقي و(بلوغ المرام من أدلة الأحكام) لابن حجر العسقلاني في المذهب الشافعي، (منتقى الأخبار) لمجد الدين بن تيمية في المذهب الحنبلي، وغيرها.
إن المطالع لهذه الكتب المهمة ليتعرف على مواطن الاختلاف بين العلماء وتوجيه آرائهم، ومناهجهم في التعامل مع الأدلة، ويتيقن من التزامهم بالكتاب والسنة إلى أقصى درجة، وهو ما يرد على أي مزاعم تافهة يثيرها بعض مدَّعي العلم الذين يريدون الدين كلأً مستباحًا يتحدثون فيه من غير ضابط ولا رابط بدعوى اتباع الكتاب والسنة مباشرة، وإهمال كل هذا التراث العظيم، الذي يطبق ما في الكتاب والسنة على النحو الأكمل.
لذا فإن هؤلاء العلماء كانوا يكنون لبعضهم كل تقدير واحترام، وسيرتهم في ذلك معروفة مشتهرة، كعلاقة أبي حنيفة ومالك، والشافعي ومالك، وابن حنبل والشافعي، ومن المواقف التي تثبت ذلك أن الإمام مالكًا ذهب إلى أن التفرُّق في مجلس العقد يكون بالأقوال وليس بالأبدان، بما يعني عدم جواز الرجوع عن العقد من طرف واحد، إلا أن يتفقا، بخلاف القول بالتفرق بالأبدان، والذي يسمح بالرجوع عن العقد ما دام المتعاقدان في مجلس العقد، والدليل الوارد في هذه المسألة حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) رواه أبو داود، فذكر ابن أبي ذئب كلمة قاسية في حق الإمام مالك بسبب تَبَنِّيه هذا الرأي، لكننا نجد الإمام أحمد بن حنبل يقول: (مالك لم يردَّ الحديث، ولكن تأوَّله على غير ذلك) فانظر على الرغم من تبني الإمام أحمد لغير رأي الإمام مالك إلا أنه تفهَّم وجهة نظره وقدَّرَها حق قدرها.
ومن شواهد أدبهم في الاختلاف: النص في كتب الفقه المذهبي على استحباب مراعاة المتمذهب بالمذهب الحنفي – مثلا – للمذهب الشافعي، وكذا العكس، كمن مس امرأة – وهو حنفي – وأراد الصلاة، فيستحبون منه إعادة وضوئه، مراعاة لخلاف الشافعي، ومن رعف (سال منه الدم) – وهو شافعي – وأراد الصلاة، استحب له إعادة الوضوء خروجًا من خلاف أبي حنيفة، وهكذا.
وصلى أبو يوسف – صاحب أبي حنيفة – بالناس الجمعة، ثم ذكر أنه كان محدثًا، فأعاد، ولم يأمر الناس بالإعادة، فقيل له في ذلك؟ فقال: ربما ضاق علينا الشيء فأخذنا بقول إخواننا المدنيين([5]) (يقصد المالكية).
تمذهب العلماء: على التمذهب بهذه المذاهب كان عمل الأمة من نحو ثلاثة عشر قرنًا من الزمان، فلقد كان علماء الأمة على مَرِّ القرون وتطاول الأزمان أتباعًا لهؤلاء الأئمة الأعلام، حتى أهل الحديث الذين ينسب إليهم زورًا وكذبًا نبذ المذاهب كانوا من علمائها وأئمتها، فالإمام البخاري كان على رأي الشافعي في كثير من المسائل وكذا مسلم والترمذي وابن ماجة والدارقطني على أرجح الأقوال وأيضًا الإمام أبو حامد الغزالي حجة الإسلام والإمام السيوطي والعز بن عبد السلام والفخر الرازي كانوا من علماء المذهب الشافعي، والقاضي ابن العربي وابن عبد البر والقرطبي والقاضي عياض من أتباع مذهب الإمام مالك، ويحيى بن معين ويحيى بن سعيد القطان ووكيع بن الجراح والطحاوي والموصلي والزيلعي كانوا من أتباع المذهب الحنفي، وابن الجوزي وابن قدامة وعبد القادر الجيلاني كانوا من أتباع المذهب الحنبلي([6])، وغيرهم كثير، فهؤلاء سلفنا الصالح رضي الله عنهم يقلدون مذاهب هؤلاء الأئمة وينتسبون لها ويبدعون على منوالها، وينسجون لنا وفق أصول هذه المذاهب تراثًا علميًّا رصينًا، دون أن يحذرونا من اتباع المذاهب أو أخذ الأحكام الشرعية من طريق غير الكتاب والسنة؛ لإدراكهم أن الطريق الصحيح إلى الكتاب والسنة إنما يكون عن طريق المذاهب التي تحفظ لنا سبل الوصول إلى التفسير الصحيح لما في الكتاب والسنة وتوضح لنا المنهج العلمي الأصيل في التعامل مع ما في الكتاب والسنة، وكيف نتعامل مع الأدلة التي يبدو في ظاهرها التعارض، والأدلة التي تختلف درجات صحتها وضعفها، والتأويل الذي يتوافق مع مقتضيات اللغة العربية وقت أن نزل القرآن وتحدث الرسول بها، وليس بعد أن فسد اللسان العربي وضعف الاتصال بلغة القرآن.
من فوائد المذاهب وثمراتها: إن التجربة أثبتت على مر القرون أن من يطالع الجهد الذي بذله هؤلاء الأئمة في بيان أحكام شرع الله ليدرك كم يجب علينا أن نحفظ مذاهبهم ونعتني بها وننتسب لها، ولماذا ندعو الناس إلى ذلك، إن هذه المذاهب حفظت لنا الدين وحملت عنا عبء طول النظر والاستدلال الذي يستغرق سنوات وسنوات من الجهد المضني والتعب الشديد، وحفظت علينا العبادات والمعاملات وكل شؤون الحياة نؤديها ونحن مطمئنين إلى صحة ما ورد إلينا من أقوالهم فيها مع ما اشتملت عليه من اختلاف في طرق الاستدلال وتباين وجهات النظر، وكل هذا لا يمنع من التفاعل مع ما يقع من حوادث ومستجدات، فهذه المذاهب تركت لنا المناهج التي تتيح لنا التعامل مع الواقع وفق مراد الشرع الشريف، إن عقلية المذاهب والمدارس الفكرية مهمة جدًّا، صغرت تلك المذاهب والمدارس أو كبرت؛ لأنها تنشئ فكرًا منتظمًا متسقًا له غايات واضحة على مدى زمني طويل، فتحقق تراكمًا وإنجازًا علميًّا، وتمكن من المراجعة والتقويم باستمرار، مما يمنح هذه المذاهب والمدارس مكانة وإمكانية في التعامل مع النصوص الشرعية والوقائع الحادثة بالمجتمع.
ومن العسير على النفس - فضلا عن الواقع العملي - التفريط بهذا التراث العلمي المتراكم عبر القرون بدعاوى حرية الرأي والتفكير وعدم الحجر على الآراء وانطلاق العقل من الجمود والتحجر، فما صلة هذه الدعاوى بأمر المذاهب الفقهية، إن التمذهب لا يعني انغلاق العقل وتحجر الفكر، بل يعني إطلاق العنان للعقل وتحرر الفكر، للسياحة في إنزال حكم الله الوارد في النصوص الشرعية على الوقائع الحادثة بضوابط علمية رصينة ومناهج واضحة وتسلسل موصول برسول الله صلى الله عليه وسلم، في ظل إيمان المنتسبين للإسلام بأن المطلوب منهم في هذه الحياة هو اتباع مراد الله سبحانه وتعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
أخطاء المتمذهبين: ومن المهم أن نلتفت إلى بعض الأخطاء التي وقع فيها المنتسبون لهذه المذاهب شوهت صورة التمذهب والمذاهب ذاتها، فقد تعامل بعض المنتسبين لهذه المذاهب بشيء من القداسة لا ينبغي أن تكون إلا في التعامل مع كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أن التعصب الذي وقع في بعض المراحل الزمنية من تاريخنا أدَّى إلى اندلاع فتن كثيرة، بالإضافة إلى أنَّ الجدال والخلاف العقيم – وليس الجدال والخلاف الذي يثري البحث العلمي والتراث الفقهي - الذي حدث بين بعض أتباع المذاهب الفقهية في أماكن مختلفة قد أورث التمذهب صورة سلبية لدى البعض دفعتهم لرفض التمذهب.
وهناك أمور متعلقة بالتمذهب ينبغي التنبه إلى أنه لا خلاف فيها، وهي: 1- ليس ثمة ما يلزم المقلد شرعًا بالاستمرار على المذهب أو يمنع من التحول عنه إلى غيره، لكن عليه أن لا يُبَدِّلَ بين المذاهب بالهوى والتشهي، أو للتشديد على الآخرين فينتقي من كل مذهب ما يضيق به على الناس ويزيد عليهم رقعة الحرام، فهذا فيه تقليل من شأن الدين وعلم الفقه، وتاريخ هذه المذاهب وأئمتها، أما إن كان يفعل ذلك من باب الاحتياط وفي خاصة نفسه وحسب - لا من باب التشديد على الناس - فلا بأس به.
2- إذا ارتفع مستوى المقلد العلمي وجب عليه أن يُعْمِلَ نظره في الأدلة وألا يقتصر على مذهب إمامه، ما دام قد وصل إلى درجة صار معها يملك القدرة على النظر والتبصر بالأدلة في الكتاب والسنة وأصول الاجتهاد، معتمدًا على طاقته العلمية المتوفرة لديه.
3- جميع المذاهب على حق ما دام رائدها الكتاب والسنة والتقيد بأصول الاجتهاد وشروطه، وأن من أخطأ فيهم إصابة حكم الله في المسألة، فهو معذور عند الله عز وجل، وليس لمتبع مذهب أن يُخَطِّئَ المذاهب الأخرى.
ولو كان تقليد العلماء والأئمة المتبوعين على مر العصور باطلا لمنعه العلماء الذين قيضهم الله حماة للدين والعقيدة لكنهم كما رأينا اتبعوا هذه المذاهب وزانوها بآرائهم وتخريجاتهم على قواعد مذاهبهم التي يتبعونها([7]).
يقول الإمام ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين في حديثه عن أنواع التقليد المذموم([8]): وقد ذَمَّ الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه كما في قوله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون﴾[البقرة:170] وقال تعالى: ﴿وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون﴾ [الزخرف:23] ﴿قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم﴾ [الزخرف:24] وقال تعالى: ﴿وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا﴾ [المائدة: 104] وهذا في القرآن كثير يذم فيه من أعرض عما أنزله وقنع بتقليد الآباء.
فإن قيل: إنما ذم من قلد الكفار وآباءه الذين لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، ولم يذم من قلد العلماء المهتدين، بل قد أمر بسؤال أهل الذكر، وهم أهل العلم، وذلك تقليدهم، فقال تعالى: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ [النحل:43] وهذا أمر لمن لا يعلم بتقليد من يعلم.
فالجواب أنه سبحانه ذم من أعرض عما أنزله إلى تقليد الآباء، وهذا القدر من التقليد هو مما اتفق السلف والأئمة الأربعة على ذمه وتحريمه، وأما تقليد من بذل جهده في اتباع ما أنزل الله وخفي عليه بعضه فقلد فيه من هو أعلم منه فهذا محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور.
وعند حديثه عن الإفتاء تجده يتحدث عن التمذهب ويتعامل معه بصورة طبيعية دون أن تستشعر منه تحريمًا له على الرغم من ذمه التقليد، لكنه يقصد التقليد المذموم، الذي يأباه الشرع الشريف والأئمة المتبوعون أنفسهم.
ونختم بكلمة للإمام محمد زاهد الكوثري عن المذهبية واللامذهبية قال فيها([9]): (لا تجد بين رجال السياسة - على اختلاف مبادئهم - من يقيم وزنا لرجل يدعي السياسة وليس له مبدأ يسير عليه ويكافح عنه باقتناع وإخلاص، وكذلك الرجل الذي يحاول أن يخادع الجمهور قائلا لكل فريق : أنا معك.
وللعلوم طوائف خاصة تختلف مناهجهم حتى في العلم الواحد عن اقتناع خاص؛ فمن ادَّعى الفلسفة من غير انتماء إلى أحد مسالكها المعروفة، فإنه يعد سفيهًا منتسبًا إلى السَّفه، لا إلى الفلسفة.
فالمسلم الرزين لا ينخدع بمثل هذه الدعوة، فإذا سمع نعرة الدعوة إلى الانفضاض من حول أئمة الدين الذين حرسوا أصول الدين الإسلامي وفروعه من عهد التابعين إلى اليوم، كما توارثوه من النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه – رضي الله عنهم أجمعين – فلا بد له من تحقيق مصدر هذه النعرة واكتشاف وكر هذه الفتنة، وهذه النعرة لا يصح أن تكون من مسلم صميم درس العلوم الإسلامية حق الدراسة).
الإفتاء والمذهبية: ومن يعمل بالإفتاء يعلم علم اليقين كيف يسَّر الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة بوجود هؤلاء الأئمة ومذاهبهم التي قَيَّضَ الله عز وجل لحفظها تلاميذ نجباء، دونوها وبوبوها وقَعَّدوا لها القواعد ووضعوا لها الأصول الضابطة واستخرجوا منها الفروع اليانعة، لينتفع بها المسلمون ويجدوا فيها من سعة الدين ما تقرُّ به أعينهم، فالمفتي حين تعرض عليه المسألة المستفتى فيها يجد من أقوال الفقهاء ما يرفع الحرج عن السائل فيأخذ له به، أو يرى فعلا مباحًا ويرى أن عدم تقييده يفتح بابًا للتساهل في الدين فيمكن أن يأخذ برأي يضبط من خلاله انفلاتا في الأخلاق والسلوك.. فهذه المذاهب من آثار رحمة الله تعالى بعباده المسلمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - تاج العروس 2/450.
[2] - د. محمد سعيد رمضان البوطي: اللامذهبية.. أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية، هامش ص 17، ط دار الفارابي 2005.
[3] - انظر.. محمد زاهد الكوثري: مقالات الكوثري، ص 130 : 132 بتصرف، ط المكتبة التوفيقية، ومحمد أبو زهرة: مالك.. حياته وعصره وآراؤه الفقهية، ص29 : 43 بتصرف، وأبو زهرة: الشافعي.. حياته وعصره وآراؤه الفقهية، ص 14 : 25 بتصرف ط دارا لفكر العربي.
[4] - انظر.. محمد أبو زهرة: ابن حنبل.. حياته وعصره وآراؤه الفقهية، ص 14 وما بعدها، ط دارا لفكر العربي.
[5] - محمد عوامة: أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين، ص 75، 133 بتصرف، ط دار البشائر الإسلامية.
[6]- عبد الرحيم اللاجفوري: التقليد الشرعي في الأمور الفقهية، وأهميته في الإسلام، ص 31، 32، بتصرف، ط مكتبة الحرمين للنشر والتوزيع ـ دبي.
[7] - راجع في ذلك اللامذهبية للبوطي: مرجع سابق، ص 48 : 50.
[8] - ابن القيم: ‘إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج3 ص 447، 448، ط دار ابن الجوزي.
[9] - مقالات الكوثري: ص 129 : 133.
·
· مركز البحوث والدراسات
· إعلام جديد
*************************************
المفهوم الخامس: المشقة وما يتعلق بها من أحكام
المشقة في اللغة: تعني الجهد والعناء والشدة والثقل، يقال: شَقَّ عليه الشيء يشق شقًّا ومشقَّة إذا أتعبه، ومنه قوله تعالى: ﴿لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ﴾ [النحل:7] أي بجهد الأنفس، ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن هذا المعنى اللغوي.
ومن الألفاظ ذات الصلة بهذا المصطلح: الحرج: وهو لغة الضيق، واصطلاحا: ما فيه مشقة فوق المعتاد([1]).
أنواع المشقة:
وقد ذكر الإمام الشاطبي أربعة أوجه توجد فيها المشقة([2])، هي:
1- مشقة الأمر الذي لا يطاق، وهو الذي لا يقدر العبد على حمله أصلا، وهذا النوع من التكليف لم يرد به الشرع.
2- مشقة تطاق ويمكن احتمالها، لكن فيها شدَّة، وهذا القسم على ضربين: أن تكون المشقة خاصة بعين فعل المكلف، مثل الصوم في السفر والمرض وهو ما شرعت فيه الرخص، وألا تكون مختصة بعين الفعل، ولكن بالنظر إلى دوام أداء هذه الأعمال تصير شاقة وتلحق المشقة العامل بها، ويوجد هذا في النوافل وحدها إذا تحمل منها الإنسان فوق ما يحتمله على وجه ما، إلا أنه في الدوام يتعبه، أما ما تضمنه التكليف الثابت على العباد من المشقة المعتادة فهذا لا يسمَّى مشقة في العادة، وإن اعتبر كلفة.
3- الزيادة في الفعل على ما جرت به العادة.
4- أن يكون التكليف خاصًّا بما يلزم عمَّا قبله، يقصد أن مجرد التكليف بعد عدمه في حد ذاته يمثل أحد أوجه المشقة، إذ فيه مشقة مخالفة النفس هواها حتى ولو لم يكن الفعل في ذاته مشتملا على مشقة تذكر.
مواضع المشقة الواردة في الشريعة:
اتفق علماء الأصول على أن العبد لا يؤاخذ إلا بما هو في طاقته، فلا يؤاخذ بما لا يمكنه فعله، واليسر وإن كان هو الصبغة العامة للشريعة الإسلامية، وهو الأصل في أحكامها، إلا أن فيها أحكاما فيها نوع من المشقة لدواعٍ تقتضي ذلك، منها:
أولا- أن تكون المصلحة التي ترجى من ذلك الفعل (المحكوم فيه) مصلحة عظيمة لا يمكن تحصيلها إلا بتعرض البعض للمشاق، كإنقاذ الغرقى والحرقى، فإن الذي يتصدَّى لذلك قد يتعرض لأخطار جسيمة، وكذلك درء المفاسد العظيمة التي لا يمكن درؤها إلا بتعرض البعض للمشاق، كالجهاد لدفع المعتدين على الديار والأعراض، والحقوق، والوقوف في وجه الظلم والجور والطغيان، فكل ذلك يعرض حياة القائم به للأخطار، ومع ذلك فهو مطلوب شرعا؛ لقوله تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة:41] وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة:216] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) رواه الترمذي، وقال أيضًا: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) أخرجه الحاكم وقال صحيح الإسناد، ويحكم ذلك فقه الموازنات الشرعية الذي يوفق بين اعتبارات المفاسد والمصالح، وقد كانت الثورات التي انطلقت في ربوع المنطقة العربية من المشاق العظيمة التي تكبَّدت المجتمعات في سبيلها الخسائر الفادحة، ولكن من أجل تحقيق مصالح أعظم تعود بالنفع العميم على مصائر هذه الشعوب ومكانتها المرجوة.
ومن الجدير بالذكر التأكيد على رحمة الله بعباده في هذه المشاق، إذ جعلها فرض كفاية تجب على المستطيع، وإذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وأجاز التكليف بها لكن لا على وجه الدوام والاستمرار، ذلك أن المشقة لم تقصد لذاتها، بل لما يترتب عليها من تحقيق لمصالح تفوق ما يخلِّفُه تحمُّلُها من أضرار([3]).
ثانيا- حالات من الاحتياط فيها نوع من العسر، والغرض منه غالبا اطمئنان المكلف إلى خروجه من عهدة التكليف بيقين، ومن ذلك أن يتذكر أنه نسي صلاة من يوم لا يدري أيُّ الخمسِ هي؟ فعليه أن يصلي الصلوات الخمس جميعًا، أو فاتته صلاة لا يدري أهي الظهر أم العصر، فيقضيهما، أي: الظهر والعصر.
وإذا تعارض دليلان أحدهما يقتضي التحريم والآخر يقتضي الإباحة، يغلب التحريم مع أن الإباحة أيسر.
لكن إن وصل الأمر بالاحتياط إلى العسر والحرج، فأكثر العلماء على تغليب قاعدة رفع الحرج، فلو اختلط في البلد حرام لا يمكن أن ينحصر لم يحرم الشراء منه، بل يجوز الأخذ منه، إلا أن يقترن به علامة على أنه من الحرام، وربما غلب البعض قاعدة الاحتياط على قاعدة رفع الحرج في بعض الصور.
فالتكليفات التي تكون فيها مشقات غير معتادة، ثابتة في إحدى أحوال ثلاثة:
( أ ) في فروض الكفاية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عندما يعرض الآمِرُ أو الناهي نفسَه إلى الهلاك.
(ب) في الحالات التي لا يتحقق النفع العام إلا ببذل الغالي والنفيس من أجل حصولها.
(ج) في الأحوال التي يكون فيها اعتداء على حق من حقوق الله تعالى، أو حقوق العباد، كمن يُكْرَه بالقتل إن لم يقتل غيره، فإن عليه أن يصبر ولا يقتل غيره بالرغم من المشقة التي يعاني منها وقد تتسبب في هلاك نفسه.
المشاق الموجبة للتيسير([4]):
المشاق على قسمين:
القسم الأول: مشاق لا يخلو منها التكليف غالبًا كمشقة البرد في الوضوء والغسل، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، ومشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها غالبا، ومشقة ألم الحدود كرجم الزناة، وقتل الجناة، وقتال البغاة، فلا أثر لهذا النوع من المشقات في إسقاط العبادات والطاعات ولا في تخفيفها؛ لأن الله تعالى فرضها على ما فيها من المشقة؛ لمصالح يعلمها.
والقسم الثاني: مشاق لا صلة لها بالتكليف غالبًا، فما لا يطاق منها اقتضى التخفيف، فإن كانت عظيمة فادحة كالخوف على النفس، أو الأعضاء، فهي موجبة للتخفيف؛ لأن حفظ النفوس والأطراف لإقامة مصالح الدين أولى من تعريضها للفوات في عبادة أو عبادات يفوت بها أمثالها، وإن كانت المشقة خفيفة، كألم خفيف، أو سوء مزاج خفيف، فهذا لا أثر له، ولا يترخص به؛ لأن تحصيل مصالح العبادات أولى من دفع مثل هذه المفسدة التي لا أثر لها، والمشقة المتوسطة بين هاتين الدرجتين ما اقترب منها من الدرجة العليا أوْجَبَ التخفيف، وما اقترب منها من الدرجة الدنيا أو الخفيفة لم يوجب التخفيف، وما تَرَدَّدَ بينهما فهو مما يختلف فيه غالبا.
قال عز الدين بن عبد السلام في لفتة هامَّة إلى معيار نظر الشارع في موضوع المشاق وتخفيفها وعلاقتها بالعبادات، فقال: (وتختلف المشاق باختلاف العبادات في اهتمام الشرع بها، فما اشتدَّ اهتمامه به شرط في تخفيفه المشاق الشديدة أو العامة، وما لم يهتم به خفَّفَه بالمشاق الخفيفة، وقد تخفف مشاقه مع شرفه وعلو مرتبته لتكرر مشاقه كي لا يؤدي إلى المشاق العامة الكثيرة الوقوع)([5]).
ومن هنا جاءت القاعدة الفقهية المشهورة (المشقة تجلب التيسير) وهي من أمهات قواعد الفقه الإسلامي، يحتاج إليها المجتهد والمفتي كثيرًا.
وقد قال السيوطي: "يرجع إلى هذه القاعدة غالبُ أبواب الفقه".
ومثلها قاعدة (إذا ضاق الأمر اتسع) بمعنى أنه إذا دعت الضرورة والمشقة إلى اتساع الأمر فإنه يتسع إلى أن يندفع الضرر والمشقة، ولهذه القاعدة تكملة وهي (وإذا اتسع ضاق) بمعنى أنه إذا اندفع الضرر وزالت المشقة، عاد الأمر إلى ما كان عليه في الأصل([6]).
والدراية بالمشاق ودرجاتها ومعرفة أنواعها من الأمور الهامة جدًّا للمفتي والمجتهد، حتى يقدرها قدرها اللائق بها وفق ما تقتضيه أصول الشرع الشريف، ويتعامل معها بروح هذه الشريعة السمحة التي جاءت لترفع الحرج والمشقة والعنت، وجاءت بالتيسير والرحمة والرأفة بالعباد، من غير إفراط ولا تفريط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - الموسوعة الفقهية الكويتية، مصطلح (مشقة).
[2]- انظر الموافقات للشاطبي، ج 2 ص 119 وما بعدها، ط دار الفكر العربي، تحقيق د. محمد عبد الله دراز.
[3] - راجع أصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة، ص377، ط دار الفكر العربي.
[4]- راجع قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، ج 2 ص 13 وما بعدها، ط دار القلم ـ دمشق.
[5] - المرجع السابق: ص 15.
[6] - انظر شرح القواعد الفقهية للشيخ الزرقا، ص 157 وما بعدها، ط دار القلم ـ دمشق.
************************************
التبليغ عن الله سبحانه وتعالى شرف كبير ومنزلة عظيمة وفي الوقت ذاته مهمة ثقيلة وأمانة كبيرة، وإشعارًا لهذا المعنى سمى بعض العلماء هذه العملية بـ(التوقيع عن رب العالمين) يقول الإمام ابن القيم في إشارة بالغة الدلالة على تعامل البشر مع حكامهم ورؤسائهم: «وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السَّنِيَّات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟»([1]).
والتوقيع في اللغة([2]): ما يوقع في الكتاب أو الخطاب ويلحق به بعد الفراغ منه كتوقيع المسؤول أو المدير على طلب أو شكاية، وتوقيع السيف: صقله بالمطرقة حتى يصير حادًّا، فالمعنى اللغوي يفيد معنى الإقرار النهائي أو انتهاء الأمر على وجه الدقة والإجادة، وعلى ذلك فإن عموم الإخبار عن الله - سبحانه وتعالى - ينبغي أن ينقل مع استصحاب هذا الشعور بأنه توقيع عن الله رب العالمين، فالذي يَحْفَظُ أو يُحَفِّظُ القرآن أو يشتغل بالتفسير أو رواية الحديث، أو من يُعلم ويتعلَّم علوم الشرع الشريف كالفقه والأصول والعقيدة وغير ذلك من علوم الشرع الشريف، ينبغي أن يشعر أنه يتعامل مع الله سبحانه وتعالى وينقل عنه كلامه وأحكامه.
وقد اشتهر إطلاق هذا المصطلح على القضاء والفتيا؛ وذلك نظرًا لخطورتهما وعظم شأنهما، فعَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار) رواه أبو داود والترمذي.
مظاهر تقدير العلماء لأمر الفتيا:
لقد كان العلماء والأئمة على مَرِّ تاريخنا الإسلامي يكرهون التسرُّع في الفتوى، وقال بعضهم: لأن يعيش الرجل جاهلاً خيرٌ له من أن يفتي بما لا يعلم، وكانوا يكثرون رضي الله عنهم من قول (لا أدري) حين يسألون عن شيء لا يعلمونه.
قال الإمام النووي: «اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل، لأن المفتي وارث الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وقائم بفرض الكفاية، ولكنه معرض للخطأ؛ ولهذا قالوا: المفتي موقّع عن الله تعالى، وروينا عن ابن المنكدر قال : العالِم بين الله تعالى وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم»([3]).
وروى ابن الجوزي في كتابه (تعظيم الفتيا) عن الحسن بن زيادٍ اللؤلؤي، أنه استُفْتِيَ في مسألة فأخطأ، فلم يعرف الذي أفتاه، فاكترى مناديًا (أي استأجر مناديًا) فنادى: أن الحسن بن زياد استُفْتي يوم كذا وكذا في مسألة فأخطأ، فمن كان أفتاه بشيء فليرجع إليه، فمكث أيامًا لا يفتي حتى وجد صاحب الفتوى، فأعلمه أنه قد أخطأ، وأن الصواب كذا [وكذا]([4]).
وقد بلغ باهتمام العلماء بهذا التصور في التعامل مع أحكام الشرع الشريف أن ألف الإمام ابن القيم كتابا أسماه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) يبين فيه أهمية وخطر هذا العلم وشروط من يقوم به وأهم القضايا المتعلقة به، ونماذج من أقضية وفتاوى الصحابة والتابعين وأكابر العلماء، وكذلك ألف العديد من العلماء كتبا في آداب الفتوى وشروطها وكذلك القضاء.
وأول الموقعين عن رب العالمين هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يفتي عن الله تعالى بوحيه المبين، ثم قام الصحابة رضوان الله عليهم بهذه المهمة الجليلة، ومن أكثر من نقلت عنهم الفتاوى: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر.
وذكر العلماء فيمن يروي ويفتي أنه لا يصلح إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله.. فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يُعِدَّ له عُدَّتَه، وأن يَتَأَهَّبَ له أُهْبَتَه، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حَرَجٌ من قول الحقِّ والصَّدْعِ به؛ فإن الله ناصره وهاديه، وكيف لا وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ [النساء: 127] وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة؛ إذ يقول في كتابه: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ [النساء: 176]، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غدا وموقوف بين يدي الله.
أثر الالتزام بقواعد صناعة الإفتاء:
إن الالتزام بقواعد صناعة الإفتاء واستشعار معنى التوقيع عن الله – سبحانه وتعالى - يؤدي إلى الفتوى الرشيدة التي توصل المستفتي العامل بها إلى الله سبحانه وتعالى، فمن استفتى في شأن عبادته من صلاة وزكاة وصيام وحج وغير ذلك من العبادات سيؤديها على نحو صحيح يرضي الله عز وجل، ومن استفتى في كسب قوته وتعاملاته المادية أطاب مطعمه وأكل من حلال، كما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة) رواه الطبراني، بل إن الفتوى الرشيدة النابعة من عمق مقاصد الشرع الشريف المظهرة لسماحة الإسلام وجمال أحكامه تعدُّ بابًا من أبواب الدعوة إلى الله عز وجل، ودخول الناس في دين الله أفواجا، والفتوى المبنية على إدراك الواقع والتفاعل معه تحمي المجتمع وتحفظه من عوامل الهدم والتفتيت وتحفظ على الناس دينها ومعاشها، وهذا ما يبين خطر الإفتاء وأهمية الدور الذي يقوم به في حياة الفرد والمجتمع والأمة، بل والإنسانية كذلك.
فالإفتاء صناعة، تحتاج إلى ضبط والتزام بقواعد معينة، ولا يجوز أن يتدخل فيها من ليس من أهلها أو يتقول فيها بغير علم ومن دون تحصيل الأدوات اللازمة لها كما هو مبين في المفتي وشروطه وأركان الإفتاء وغيرها من موضوعات في قسم المعارف الإفتائية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج 2 ص 17، 18، ط مكتبة ابن الجوزي.
[2] - انظر.. تاج العروس، مادة وقع، ج 22، ص 362.
[3] - النووي: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، ص 13، ط دار الفكر ـ دمشق.
[4] - ابن الجوزي: تعظيم الفتيا، ص 91، ط الدار الأثرية، عمَّان.
*******************************
الفرق بين القاضي والمفتي: * المفتي مخبر بالحكم الشرعي، أما القاضي فهو ملزم بمقتضى الحكم الشرعي. * فحكم القاضي ملزِم لِمَنْ تحاكم إليه، يَنْفُذُ حكمه قهرًا، أمَّا فتوى المفتي فغير ملزمة في المنازعات بين الخصوم؛ إذ ليس من شأنه طلب البينات واستشهاد الشهود واستحلاف أطراف النـزاع، وليس مجلسه مجلسَ إقرار، بخلاف القاضي في كل ذلك. وعلى هذا فالمفتي أقرب إلى السلامة من القاضي؛ لأنه لا يُلزِم بفتواه، وإنما يخبر بها من استفتاه، فإن شاء قبل قوله، وإن شاء تركه، والقاضي يُلزِم بقوله، فيشترك هو والمفتي في الإخبار عن الحكم، ويتميز القاضي بالإلزام والقضاء؛ فهو من هذا الوجه خطره أشد(1). ولأن الفقيه من شأنه إصدار الفتوى من ساعته بما يحضره من القول، والقاضي شأنه الأناة والتثبت، ومن تأنى وتثبت تهيأ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة. (2) وينبني على هذا الفرق أيضا أن يلزم القاضي من الاستظهار في الاجتهاد أكثر مما يلزم المفتي، ويأثم بالتسهيل وطلب الترخيص أكثر مما يأثم المفتي وإن كان كل واحد منهما مأمورا بإمعان النظر واجتناب الرخص؛ لأن في القضاء إلزاما ليس في الفتيا، ويجب فيه ما لا يجب في الفتيا، فافترقا(3). وينبني عليه أيضا: أن القاضي أعظم أجرا من المفتي، قال العز بن عبد السلام: "فصل: في تفضيل الحكام على المفتين والأئمة على الحكام. إن قيل: هل يتساوى أجر الحاكم والمفتي القائمين بوظائف الحكم والفتيا أم لا؟ فالجواب: إن أجر الحاكم أعظم؛ لأنه يفتي ويلزم، فله أجران: أحدهما: على فتياه والآخر على إلزامه، هذا إذا استوت الواقعة التي فيها الفتيا والحكم، وتختلف أجورهما باختلاف ما يجلبانه من المصالح ويدرآنه من المفاسد، وتصدي الحاكم للحكم أفضل من تصدي المفتي للفتيا(4)". ويترتب على ذلك ما يأتي: • أن المفتي لا يفتي فيما ينظر فيه القاضي إلا على جهة المشورة وإبداء الرأي؛ فإذا كانت الدعوى معروضة أمام المحاكم للنظر فيها فلا تَستَفْتِ –أخي السائل- فيما كان النظر فيه من شأن القاضي، وليكن سؤالك عامًّا لا تَعَلُّقَ له بحقٍّ لمعيَّنٍ أو على معيَّنٍ. • أَنَّ فتوى المفتي لا تُعَارِضُ حُكْمَ القاضي إلا إذا خالف نَصًّا صريحًا أو إجماعًا صحيحًا؛ فَإِنَّ حُكْمَهُ يكون باطلاً حينئذٍ. • أن المفتي لا يملك تغيير المحرَّرات الرسمية التي يصدرها القاضي أو مأذونُه كما في الزواج والطلاق؛ فإذا أراد مَن حُرِّرَتْ له وثيقة طلاق رسمية مثلا أن يطعن فيها، فالطريق الصحيح له - إذا رأى نفسه مُحِقًّا- أن يلجأ إلى المحكمة طلبًا للتصحيح، ثم إذا أراد القاضي بعد ذلك أن يستشير المُفْتِي فإنه يُخَاطِبُه بِمُحَرَّر رَسْمِيٍّ. مثلا: قد يطلب الزوج - أو الزوجة التي حضر زوجُها للاستفتاء- من المفتي ما يفيد وقوع الطلاق من عـدم وقوعه، وحينئذٍ فإفادة المفتي أو دار الإفتاء بذلك إنما هي على سبيل الشهادة لا القضاء. * كذلك تفارق الفتوى القضاء في أن هذا الأخير إنما يقع في خصومة يستمع فيها القاضي إلى أقوال المدعي والمدعى عليه، ويفحص الأدلة التي تقام من بينة وإقرار القرائن، أما الفتوى فليس فيها كل ذلك، وإنما هي واقعة يبتغي صاحبها الوقوف على حكمها من واقع مصادر الأحكام الشرعية(5). * إذا أفتاه المفتي بقول مجمع عليه لم يخيره في القبول منه، وإن كان مختلفا فيه خيَّره بين أن يقبل منه أو من غيره. فإن كان التخيير معلوما من قصد المفتي لم يجب عليه أن يخيره لفظا، بل يذكر له قوله فقط. وليس كذلك القاضي؛ لأن القاضي منصوب لقطع الخصومات، فلو كان الخصم مخيرا بين الدخول تحت حكمه وترك الدخول لم تنقطع الخصومة أبدا. (6) * فتوى المفتي حكم عام يتعلق بالمستفتي وبغيره، فالمفتي يحكم حكمًا عامًا كليًا أن من فعل كذا ترتب عليه كذا، ومن قال كذا لزمه كذا، بخلاف القاضي فإن حكمه جزئي خاص على شخصٍ معينٍ لا يتعداه إلى غيره(7). * كل ما يتأتى فيه الحكم تتأتى فيه الفتوى، ولا عكس؛ ذلك أن العبادات كلها لا يدخلها الحكم (القضاء)، وإنما تدخلها الفتيا فقط، فلا يدخل تحت القضاء: الحكم بصحة الصلاة أو بطلانها، وكذلك أسباب العبادات؛ كمواقيت الصلاة، ودخول شهر رمضان، وغير هذا من أسباب الأضاحي والكفارات والنذور والعقيقة؛ لأن القول في كل ذلك من باب الفتوى. ومن ثم كانت الأحكام الشرعية قسمين : الأول : ما يقبل حكم الحاكم مع الفتوى، فيجتمع الحكمان؛ كمسائل المعاملات من البيوع، والرهون، والإيجارات، والوصايا، والزواج والطلاق. الثاني : ما لا يقبل إلا الفتوى؛ كالعبادات وأسبابها وشروطها وموانعها(8). * وتجوز تولية الأعمى في الفتوى كما في فتاوى البرزلي. بخلاف القاضي، فلا يجوز تولية الأعمى؛ لأنه لا يعرف الخصوم والشهود(9)، وإن وقع نفذ حكمه ولا ينقض، لكن يجب عزله ولو طرأ عليه؛ وإنما نفذ حكمه لأن البصر ليس شرطا في صحة ولايته ابتداء ولا في صحة دوامها، بل هو واجب غير شرط في الابتداء والدوام(10). * لا يشترط النطق في المفتي، فيَصِحُّ إفْتَاءُ الْأَخْرَسِ لَا قَضَاؤُهُ، وَيُكْتَفَى منه بِالْإِشَارَةِ المفهمة. بخلاف القاضي، فلا يجوز تولية الأخرس؛ لِلُزُومِ صِيغَةٍ مَخْصُوصَةٍ؛ كَحَكَمْتُ وَأَلْزَمْت بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ(11). * المفتي يفتي بالديانة والقاضي يقضي بالظاهر. فالْمُفْتِي يُفْتِي بالديانة، يَعْنِي أَنه يحكم على حسب إِظْهَار الْمُكَلف، فَإِن كَانَ صَادِقا فِي إِظْهَاره يجازى على حسب إِظْهَاره، وَإِن كَانَ كَاذِبًا لَا يَنْفَعهُ حكم الْمُفْتِي. وإِذا علم الْمُفْتِي حَقِيقَة الْأَمر لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يكْتب للسَّائِل؛ لِئَلَّا يكون معينا على الْبَاطِل، وَإن كتب لَا يكْتب على مَا يعلمه بل على مَا فِي السُّؤَال، إِلَّا أَن يَقُول: إِن كَانَ كَذَا فَحكمه كَذَا. وَأما القَاضِي فَيجب عَلَيْهِ الحكم بِظَاهِر حَال الْمُكَلف، وَيلْزم بِمَا ثَبت عِنْده بِالْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَة(12). مثلا: إذا قال رجل: قلت لزوجتي: (أنت طالق) -قاصدا بذلك الإخبار كاذبًا- فإن المفتي يفتيه بعدم الوقوع، والقاضي يحكم عليه بالوقوع؛ لأنه يحكم بالظاهر. ولو قال لامرأته: إن ولدتِ غلاماً فأنتِ طالق واحدة، وإن ولدتِ جاريةً فطالق بثنتين، فأتت بهما ولم يدر الأول، تقع واحدة قضاء وثنتين ديانة(13). والقاضي الحاكم يحتاج إلى معرفة المسائل والوقائع أيضاً بخلاف المفتي(14). * قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح: وينبغي أن يكون المفتي كالراوي -في أنه لا يؤثر فيه قرابة وعداوة وجر نفع ودفع ضر- لأن المفتي في حكم مخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص، فكان كالراوي لا كالشاهد، فتصح فتواه لمن لا تقبل شهادته له؛ كولده أو أبيه(15). وأما القاضي فلا يحق له القضاء على من لا تقبل شهادته له؛ كقريبه وعدوه. لكن نقل أبو عمرو بن الصلاح عن صاحب الحاوي أن المفتي إذا نابذ في فتياه شخصا معينا صار خصما، فترد فتواه على من عاداه، كما ترد شهادته عليه إذا وقعت. * ويجوز للمفتي أن يقبل الهدية، بخلاف الحاكم. والفرق بين المفتي وبين القاضي واضح؛ فإن القاضي ملزم وخليفة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تنفيذ الأحكام، فأخذه الهدية يكون رشوة على الحكم الذي يؤمله المهدي، ويلزم منه بطلان حكمه، والمفتي ليس كذلك(16). وإمام الجامع والمدرس والواعظ ومعلم القرآن حكمهم في الهدية حكم المفتي. والأولى في حقهم -إن كانت الهدية لأجل ما يحصل منهم من الإفتاء والوعظ والتعليم- عدم القبول؛ ليكون علمهم خالصا لله تعالى، وإن أهدي إليهم تحببا وتوددا -لعلمهم وصلاحهم- فالأولى القبول. وأما إذا أخذ المفتي الهدية ليرخص في الفتوى: فإن كان بوجه باطل فهو رجل فاجر يبدل أحكام الله تعالى، ويشتري بها ثمنا قليلًا، وإن كان بوجه صحيح فهو مكروه كراهة شديدة. وكل من عمل للمسلمين عملا حكمه في الهدية حكم القاضي(17). ومثله: مشايخ القرى والحرف، وغيرهم ممن لهم قهر وتسلط على من دونهم؛ فإنه يهدي إليهم خوفا من شرهم أو ليروج عندهم(18). * وللمفتي رد الفتيا إن خاف غائلتها، أو كان بالبلد أهل للفتيا عالم قائم مقامه؛ لفعل السلف؛ ولعدم تعين الإفتاء حينئذ، فإن لم يكن بالبلد عالم يقوم مقامه لم يجز له رد الفتيا؛ لتعينها عليه. ولا يجوز قول القاضي لمن ارتفع إليه في حكومة: امضِ إلى غيري، ولو كان بالبلد من يقوم مقامه؛ لأن تدافع الحكومات يؤدي إلى ضياع الحقوق(19). فائدة: جاء في إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار (ص: 166-167): ((الْفَائِدَة الثَّانِيَة: حكم الله وَرَسُوله يظْهر على أَرْبَعَة أَلْسِنَة: لِسَان الرَّاوِي، ولسان الْمُفْتِي، ولسان الْحَاكِم، ولسان الشَّاهِد: فالراوي يظْهر على لِسَانه لفظ حكم الله وَرَسُوله، والمفتي يظْهر على لِسَانه مَعْنَاهُ وَمَا استنبطه من اللَّفْظ، وَالْحَاكِم يظْهر على لِسَانه الْإِخْبَار بِحكم الله وتنفيذه، وَالشَّاهِد يظْهر على لِسَانه الْإخْبَار بِالسَّبَبِ الَّذِي يثبت حكم الشَّارِع. وَالْوَاجِب على هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة أَن يخبروا بِالصّدقِ الْمُسْتَند إِلَى الْعلم، فَيَكُونُوا عَالمين بِمَا يخبرون بِهِ، صَادِقين فِي الْإِخْبَار بِهِ، وَآفَة أحدهم: الْكَذِب والكتمان، فَمَتَى كتم الْحق أَو كذب فِيهِ فقد حادَّ الله فِي شَرعه وَدينه، وَقد أجْرى الله سنته أَن يمحق عَلَيْهِ بركَة علمه وَدينه ودنياه، وَمن الْتزم الصدْق وَالْبَيَان مِنْهُم فِي مرتبته بورك لَهُ فِي علمه وَوَقته وَدينه ودنياه، وَكَانَ مَعَ النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِك الْفضل من الله وَكفى بِاللَّه عليما، فبالكتمان يعْزل عَن سُلْطَانه، وبالكذب بِقَلْبِه عَن وَجهه، وَالْجَزَاء من جنس الْعَمَل، فجزاء أحدهم: أَن يعزله الله عَن سُلْطَان المهابة والكرامة والمحبة والتعظيم الَّذِي يلْبسهُ أهل الصدْق وَالْبَيَان، ويلبسه ثوب الهوان والمقت وَالْخَوْف بَين عباده، فَإِذا كَانَ يَوْم اللِّقَاء جازى الله من يَشَاء من الْكَاذِبين الكاتمين بطمس الْوُجُوه وردهَا على أدبارها كَمَا طمسوا وَجه الْحق وقلبوه عَن وَجهه جزاء وفَاقا، وَمَا رَبك بظلام للعبيد)). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) فيض القدير (4/ 538)، إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 29). (2) إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 29). (3) قواطع الأدلة في الأصول (2/ 354). (4) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 142). (5) راجع المجموع، ج1 ص 41، وكشاف القناع، ج6 ص 240، صناعة الإفتاء للدكتور علي جمعة ص 13 طبعة دار نهضة مصر سنة 2008م. (6) قواطع الأدلة في الأصول (2/ 362). (7) إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 36). (8) تهذيب الفروق، ج4 ص 89. (9) روضة الطالبين وعمدة المفتين (11/ 96). (10) الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (4/ 130). (11) الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (5/ 359). (12) البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (6/ 288)، قواعد الفقه (ص: 579). (13) العرف الشذي شرح سنن الترمذي (2/ 412). (14) العرف الشذي شرح سنن الترمذي (3/ 69). (15) آداب الفتوى والمفتي والمستفتي (ص: 19) :البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (6/ 288)، قواعد الفقه (ص: 579). (16) حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (5/ 373). (17) حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (5/ 373). (18) حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (5/ 373). (19) شرح منتهى الإرادات = دقائق أولي النهى لشرح المنتهى (3/ 484).
******************************************
دلت مصادر الشرع الحنيف وسير أعلام الأمة وأئمة الدين على ضرورة فقه المسلم لواقع زمانه. فرُوي عن النبي (صلى الله تعالى عليه وآله وسلم) أنه قال نقلا عن صحف إبراهيم:"وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ حَافِظًا لِلِسَانِهِ"([1]). ودلت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم على المعرفة العالية بواقع عصره؛ فقد تخير لأصحابه الحبشة مفرا من اضطهاد قريش معللا هذا بأن بها ملكا لا يظلم عنده أحد. وكان الصحابة تابعون الوقائع العالمية من حولهم مثل المعارك بين الفرس والروم، حتى استقر أن من ضروريات السياسة الشرعية العناية بالواقع: فهمًا وعيشًا. وفي العقود الأخيرة تردد بكثرةٍ مفهومُ "فقه الواقع" بين من يدعو لضرورة العناية به، ومن ينفيه عن بعض الناس وبخاصة عن علماء الدين ومشايخ الإسلام. وأثيرت قضية "فقه الواقع" لدى أهل الشريعة: ضرورته، وكيفيته، وضوابطه. ولا خلاف في أن جانب "الإفتاء" هو أكثر فروع العلم والعمل الشرعي صلةً بالواقع واحتياجا إلى فهمه وعيش أحواله المعاصرة. فما الواقع؟ وما فقه الواقع؟ ومم يتألف؟ وكيف يمكن تحصيله؟ وما علاقته بالفتوى والإفتاء؟ التعريف اللغوي والاصطلاحي "الواقع" –لغةً- هو الساقط والنازل، والواجب، والمصيب، والثابت، والحادث والمقدّر."والواقِعةُ: النازِلةُ من صُرُوف الدهرِ، والواقعةُ: اسم من أَسماء يوم القيامة... يقال لكل آت يُتَوَقَّعُ قد وَقَعَ الأَمْرُ كقولك قد جاء الأَمرُ،... والتَّوَقُّعُ: تَنَظُّرُ الأَمْرِ، ..([2]).ولقد ميز القدماء من اللغويين والفلاسفة والمناطقة وأهل المعاني بين مفهوم الواقع وعدد آخر من المفاهيم؛ من أهمها مفاهيم: الوجود، والكائن، والحق والحقيقة، والصدق، كما فرقوا أيضًا بين "الأمر الواقع" ومفهوم آخر مهم هو ما سموه: "نفس الأمر". فالواقع هو الموجود في الخارج، أما الْمَوْجُود فِي نفس الْأَمر: فهو المَوْجُود فِي نَفسه، فمثلا: شروق الشمس: حقيقته –في نفس الأمر- دوران الأرض حول نفسها من الغرب إلى الشرق، بينما الواقع (الخارجي) هو حركة قرص الشمس في كبد السماء بين مشرق الأرض ومغربها. فـ"الْمَوْجُود فِي نفس الْأَمر أَعم من الْمَوْجُود فِي الْخَارِج [أي الواقع] مُطلقًا"([3]). وقد حظي مفهوم "الواقع" باهتمام واستخدام واسعين لدى المعاصرين، خاصة مع نشأة علوم الاجتماع والإنسان في أوروبا نهايات القرن الثامن عشر الميلادي. فلقد أدت تطورات علوم الأجسام الطبيعية المادية والحيوية إلى تكشُّف كثير من قوانين ما يسمى بالواقع الفيزيقي أي المادي؛ الأمر الذي أغرى عددا من المفكرين والفلاسفة والأدباء في الغرب بمحاولة نقل التجربة نفسها إلى عالم الواقع الإنساني والاجتماعي؛ لتأسيس ما أسماه الفرنسي أوجست كونت بالفيزياء الاجتماعية([4]). من هنا أصبح مفهوم "فقه الواقع" مركزيا في الثقافة العالمية الحديثة بحقٍّ مرةً وبباطلٍ مراتٍ؛ على أساس أن الفكر ينبغي أن ينطلق من الواقع، وأن ما في الأعيان مقدم على ما في الأذهان، وأن فقه الواقع يأتي منه هو نفسه (الواقع) لا من وحي السماء ولا من أبراج العقل والحكمة. وعلى هذا، انبثقت مذاهب فكرية مادية في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والفلسفة تعتقد أن العقل البشري ليس مولدا للأفكار، ولا متفاعلا إيجابيا مع الواقع، بقدر ما هو مرآة عاكسة للواقع لا أكثر، ونجمت نظريات مثل: الجدلية المادية والتاريخية، والداروينية الاجتماعية، تجعل الإنسان ريشة في مهب حتميات التاريخ والجغرافيا والطبيعة المادية والجسمية..الخ([5]). وزاد الاعتماد على منهجية "استقراء الوقائع" بالملاحظة والتحليل والتفسير في محاولة لبناء تعميمات عن الحياة الجديدة ومجالاتها المتنوعة. تطورت هذه الحالة في ظل تراجع حضاري في عالم المسلمين، وحصْرٍ لعلماء الدين في نُطُق ضيقة تتعلق بالعلوم المدرسية وقليل من الدعوة والاتصال بحياة الناس الناشئة نشأة أخرى، فتكشفت فجوة بين فريقين من نخبة الأمة: أولهما عريق وعميق في علوم الدين ونصوصه لكنه عن الواقع وتطوراته وخصائصه المستجدة بعيد غريب، والآخر متصل بالواقع معايش لسيروراته وتحولاته وإن كان في الدين -هوية ومرجعية وأحكاما- عامي سطحي، فكانت أزمة العصر الكبرى، وفصامها النكد. ربما لم يشدد علماء المسلمين المتقدمون كثيرا على قضية فقه الواقع من باب أن واقعهم كان سهل الإدراك سواء لما اتسم به من بساطة ورتابة، أو لأن عامتهم كان واقعيا، أو لعل مرجع هذا -على ما يوضحه المفكر الكبير د.علي جمعة (مفتي مصر)- أن الواقع البشري قد تبدل تبدلا كبيرا خلال المائتي سنة الأخيرتين بفعل ثورات الاتصال والمواصلات والمعلومات والتصنيع والاكتشافات والابتكارات التقنية؛ بما تبين أثره في أركان الحياة القديمة: ضيق البرنامج اليومي، وتقارب المسافات بين الناس والبلدان، وطوفان المعلومات والأفكار ونشرها ونقلها شديد السرعة والسعة، والآلة التكنولوجية في الحروب والشئون السلمية،... كل هذا أفضى إلى واقع جديد يتطلب الفقهُ فيه وضوحًا في الموضوع والمنهج([6]). والحاصل أننا نقصد بفقه الواقع تعبير عن حسن فهم مقومات الحياة المعاصرة وخصائصها، وأهم قضاياها المستقرة، ومكوناتها المتعرضة للتغير باستمرار، مع امتلاك حس الاتصال بهذا الواقع والقدرة على المشاركة فيه. عناصر المفهوم: يقوم فقهُ الواقع على ركنين: ثقافة ورؤية. فالثقافة الواقعية معرفة مكتسبة عن عيش العصر وأحواله والمعرفة بتاريخه الممتد فيه، والرؤية الواقعية طريقة مناسبة لتنظيم المعرفة والمشاركة في الأمر العام. فالذي يجهل خصائص الزمان لا يكون فقيهًا فيه، وكذلك الذي يجمع المعلومات عن الحياة والعصر بلا عيش فيهما، أو يعيش الواقع بلا نظام فكري. ولكي يحصّل المرء هذين العنصرين لابد له من شروط ولوازم أهمها: (1)استعداد فطري لهذا النوع من الفقه، (2)ثم عيش الواقع قدرَ الوسع، ونوع مشاركة في الشئون العامة للوطن والأمة، ومطالعة للفكر المتعلق بهذا الواقع، ومعرفة أساسية وعامة بعلوم الاجتماع والإنسان المعاصرة ومناهجها في ترتيب المعرفة، واستغراق زمن كافٍ لبناء الخبرة والحس الواقعي. ولا شك في تفاوت الناس في تحصيل هذه الأمور بما ييسره الله تعالى، كتفاوت العلماء في تحصيل علومهم. لكن الأرضية الأساسية اللازمة لكي يكتسب المسلم بعامة -والمتشرع بخاصة- فقها في الواقع يمكّنه من إحسان الفتوى والمشاركة بالعلم الشرعي في الحياة، تتمثل في: منهج التربية والتعليم الذي يقرره المجتمع. فمن الضروري أن يجمع منهج التربية بين معارف الوحي ومعارف الواقع، وأن يصل بين المدارسة والممارسة، وبين البحث والعيش. بهذا يتسنى تنشئة علماء الغد على فقه الواقع متصلا بفقه الواجب. علاقته بالإفتاء: هذا، ولفقه الواقع موضع محوري ضمن عملية الإفتاء، فعملية الإفتاء تتألف من: فقه في النص، وفقه في الواقع. والفقه في الواقع كلي وجزئي. الكلي منه يتعلق بالخبرة والحس الواقعي المشار إليه أعلاه، والفقه الجزئي يتصل بحسن فهم الواقعة محل السؤال والاستفتاء. ولقد كان هذا واضحا وضوح الشمس لدى علمائنا عبر عصور الإسلام وتاريخ الإفتاء. يقول ابن القيم رحمه الله: "وَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُفْتِي وَلَا الْحَاكِمُ مِنْ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ إلَّا بِنَوْعَيْنِ مِنْ الْفَهْمِ . أَحَدُهُمَا: فَهْمُ الْوَاقِعِ وَالْفِقْهِ فِيهِ وَاسْتِنْبَاطُ عِلْمِ حَقِيقَةِ مَا وَقَعَ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ حَتَّى يُحِيطَ بِهِ عِلْمًا. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: فَهْمُ الْوَاجِبِ فِي الْوَاقِعِ، وَهُوَ فَهْمُ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْوَاقِعِ، ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ؛ فَمَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَعْدَمْ أَجْرَيْنِ أَوْ أَجْرًا؛ فَالْعَالِمُ مَنْ يَتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا تَوَصَّلَ شَاهِدُ يُوسُفَ بِشَقِّ الْقَمِيصِ مِنْ دُبُرٍ إلَى مَعْرِفَةِ بَرَاءَتِهِ وَصِدْقِهِ، وَكَمَا تَوَصَّلَ سُلَيْمَانُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: " ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ حَتَّى أَشُقَّ الْوَلَدَ بَيْنَكُمَا " إلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِ الْأُمِّ، وَكَمَا تَوَصَّلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي حَمَلَتْ كِتَابَ حَاطِبٍ مَا أَنْكَرَتْهُ لَتُخْرِجْنَ الْكِتَابَ أَوْ لَأُجَرِّدَنَّك إلَى اسْتِخْرَاجِ الْكِتَابِ مِنْهَا" ([7]). وقد لا يظهر في بعض المواضع من أبواب الإفتاء عناية كافية بهذا الشرط في المفتين لما سبق ذكره من حال العلماء وحال واقعهم في القرون المتقدمة، لكن كثيرا من أهل العلم حرص على بيان هذا الشرط. فيذكر الإمام أحمد خمسة شروط للمفتي([8])، خامستها ما يسميه "معرفة الناس" ويعلق عليها ابن القيم فيقول: "وَأَمَّا قَوْلُهُ "الْخَامِسَةُ مَعْرِفَةُ النَّاسِ": فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا فِيهِ فَقِيهًا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَإِلَّا كَانَ مَا يَفْسُدُ أَكْثَرَ مِمَّا يَصْلُحُ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا فِي الْأَمْرِ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالنَّاسِ تَصَوَّرَ لَهُ الظَّالِمُ بِصُورَةِ الْمَظْلُومِ وَعَكْسُهُ، وَالْمُحِقُّ بِصُورَةِ الْمُبْطِلِ وَعَكْسُهُ، ... ، بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِي مَعْرِفَةِ مَكْرِ النَّاسِ وَخِدَاعِهِمْ وَاحْتِيَالِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَعُرْفِيَّاتِهِمْ، فَإِنَّ الْفَتْوَى تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْعَوَائِدِ وَالْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ دِينِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ" ([9]). ويقول الخطيب البغدادي في شروط المفتي: "وَيَكُونُ بَعْدَ هَذَا مُشْرِفًا عَلَى اخْتِلَافِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ , وَيَكُونُ لَهُ قَرِيحَةٌ بَعْدَ هَذَا , فَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا فَلَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَيُفْتِيَ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَكَذَا فَلَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ وَلَا يُفْتِي"([10]). فالواجب على المفتي وطالب علم الفتوى العناية بالتمكن من فقه الواقع؛ حفظا لدين الله تعالى وأحكامه أن توضع في غير مواضعها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] من حديث رواه ابن حبان في صحيحه وأبو نعيم في الحلية كلاهما عن أبي ذر، ورواه البيهقي وابن المبارك في الزهد والرقائق ونعيم بن حماد في الزهد ومعمر بن راشد في جامعه كلهم عن وهب بن منبه موقوفا عن حكمة آل داوود. [2] [لسان العرب:......]. [3] [دستور العلماء = جامع العلوم في اصطلاحات الفنون 3/ 255] [4] بيار ماشيري: أوجست كونت وفلسفة العلوم. [5] محمد أمزيان، المعيارية والموضوعية في المنهج الوضعي. [6] الطريق على التراث، د.علي جمعة، القاهرة: نهضة مصر، 2004. [7] [إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/69] [8] [إعلام الموقعين عن رب العالمين 4/ 152]: "[خِصَالٌ يَجِبُ تَحَقُّقُهَا فِيمَنْ يُنَصِّبُ نَفْسَهُ لَلْفُتْيَا] الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي كِتَابِهِ فِي الْخُلْعِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُنَصِّبَ نَفْسَهُ لِلْفُتْيَا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ) ، أَوَّلُهَا: أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نُورٌ وَلَا عَلَى كَلَامِهِ نُورٌ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ وَحِلْمٌ وَوَقَارٌ وَسَكِينَةٌ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا عَلَى مَا هُوَ فِيهِ وَعَلَى مَعْرِفَتِهِ. الرَّابِعَةُ: الْكِفَايَةُ وَإِلَّا مَضَغَهُ النَّاسُ. الْخَامِسَةُ: مَعْرِفَةُ النَّاسِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَلَالَةِ أَحْمَدَ وَمَحَلُّهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْخَمْسَةَ هِيَ دَعَائِمُ الْفَتْوَى، وَأَيُّ شَيْءِ نَقَصَ مِنْهَا ظَهَرَ الْخَلَلُ فِي الْمُفْتِي بِحَسْبِهِ" [9] [إعلام الموقعين عن رب العالمين 4/ 157] [10] [الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 2/ 332
*****************************
"رفع الحرج"و"دفع الحرج" و"نفي الحرج" و"منع الحرج" يستخدم بعض العلماء هذه الكلمات على معانٍ مترادفة، وإن كان يمكن إيجاد بعض فوراق بينها؛ بأن يكون الدفع والمنع قبل الوقوع، وأن يكون الرفع والنفي بعد الوقوع، والخطب في ذلك يسير. فالتفرقة بينها ليست مؤكدة بل إنها أشبه ما تكون -بحكم النحوي- أنها تشم ولا تفرك، كما يقولون.
تعريف رفع الحرج: رفع الحرج: مركب إضافي، لا تتأتى معرفة المراد به إلا بمعرفة لفظيه، فالرفع لغةً: نقيض الخفض في كل شيء([1]). وفي الاصطلاح لا يخرج عن معناه اللّغوي([2]). والحرج في اللغة: قال ابن الأثير: الحرج في الأصل: الضيق، ويقع على الإثم والحرام([3]).
والحرج في الاصطلاح: ما فيه مشقة وضيق فوق المعتاد([4]).
فرفع الحرج في اللغة: إزالة الضيق، ونفيه.
وفي الاصطلاح رفع الحرج: إزالة ما في التكليف الشاق من المشقة برفع التكليف من أصله أو بتخفيفه أو بالتخيير فيه، أو بأن يجعل له مخرج.
فالحرج والمشقة مترادفان، لكن رفع الحرج لا يكون إلا بعد الشدة خلافًا للتيسير([5]).
رفع الحرج مقصد شرعي:
ورفع الحرج مقصد من مقاصد الشريعة وأصل من أصولها، فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه، وقد دلّ على ذلك الكتاب والسنة، وانعقد الإجماع على ذلك. فمن الكتاب قوله تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾([6])، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}([7])، وقوله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾([8])، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}([9])وقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾([10]).
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة»([11]).
وانعقد الإجماع على عدم وقوع الحرج في التكليف، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه، ولو كان واقعًا لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف، وذلك منفي عنها، فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة، وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير، كان الجمع بينهما تناقضًا واختلافًا، وهي منزهة عن ذلك.
ومما ينبغي الإشارة إليه أن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع([12]).
ومن وجوه الدلالة أيضا ما ثبت من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ومما علم من دين الأمة بالضرورة، كرخصة قصر الصلاة وجمعها للمسافر، والفطر للمريض، وتناول المحرمات في الاضطرار.
فإن هذا نمط يدل قطعًا على مطلق رفع الحرج والمشقة.
وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف وكل ما يؤدي إلى الانقطاع عن دوام الأعمال.
ولو كان الشارع قاصدًا للمشقة في التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف، ولأجل ذلك لم يجب شيء من الأحكام على الصبي لقصور البدن، وقصور العقل، ولا على المعتوه البالغ لقصور العقل، ولم يجب قضاء الصلاة على الحائض والنفساء، وانتفى الإثم في خطأ المجتهد، وكذا في النسيان والإكراه.
التكامل بين التكليف ورفع الحرج:
عرف العلماء التكليف: بأنه إلزام ما فيه كلفة ومشقة([13])، فهل مفهوم التكليف يعارض مبدأ رفع الحرج الذي هو مكون من مكونات الشريعة الإسلامية؟ ليس بين مفهوم التكليف ومفهوم رفع الحرج تعارض، فإن ما كلف به الشارعُ العبادَ وأمر بفعله وتحقيقه ثابت لا يُرفع ولكن الرحمة الإلهية تقتضي عدم تكليف العباد بما لا يطيقون، فيأمر الله برفع الحرج والتيسير. ويظهر ذلك مثلا في طريقة الامتثال للأمر: فالصلاة لا تسقط عن المكلَّف حال سفره ولكنها تُخفَّف ويجوز جمعها، والصيام حال المرض والسفر لا يُرفع كذلك عن المكلَّف ولكن يجوز له تأخيره إلى ما بعد الإقامة والبُرء، وهكذا يتحقق التوازن بدون تعارض بين التكاليف الشرعية ورفع الحرج عن المكلفين.
وقد يظهر تعارض بين مفهوم رفع الحرج ومفهوم "الأخذ بالأحوط" أو "الخروج من الخلاف"، وهذان المفهومان -عند من يقول بالأخذ بهما من العلماء- هما على سبيل الاستحباب وليسا على سبيل الوجوب، وبشرط عدم حصول المشقة، فهما لا يعارضان مفهوم رفع الحرج؛ بمعنى أن المقدم هو رفع الحرج، ولا مجال للأخذ بالأحوط والخروج من الخلاف حال حصول المشقة التي حرصت الشريعة الإسلامية على رفعها.
رفع الحرج والمقاصد الخمسة للشريعة الإسلامية:
إذا كانت منزلة هذا المبدأ في الشريعة ما قد رأيت وهو لا ينافي التكليف، فلماذا التكليف ثم رفع الحرج عن المكلفين؟ والإجابة هنا أن التكاليف الشرعية كان المقصد منها تحقيق المقاصد الخمسة للشريعة الإسلامية (حفظ النفس والدين والعقل والمال والنسل)، وهذه المقاصد هي أيضا مقاصد الشرائع كلها، وبدونها يقع الإنسان في الحرج، ومن أجلها جاء التكليف، ومن الحفاظ عليها جاء مبدأ رفع الحرج.
ولما كانت الشريعة الإسلامية بهذا الحرص الذي ظهر لك لرفع الحرج عن المكلفين، كان هذا المبدأ الإسلامي العظيم نصب عيني المفتي حال فتواه ومن ثم فإن المفتي يتخير من المذاهب الفقهية المعتبرة ومن أقوال الفقهاء المعتمدين ما يجعل الاستجابة للتكاليف الشريعة أيسر على المكلفين لتحقيق مبدأ رفع الحرج في الشريعة.
وعلاقة هذا المبدأ بمنظومة الإفتاء:
أن مبدأ رفع الحرج يجب أن يمثل مكونا من مكونات عقل المفتي؛ بحيث يستهدف تحقيقه في كل ما يعرض له من بيان لأحكام الشرع في الوقائع المعينة التي يُفتي فيها؛ ومن ثم ينتج عن ذلك الفتوى خالية من التحريج على الناس، بل رافعة للحرج عنهم ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾([14]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) لسان العرب 8/129.
([2]) الموسوعة الفقهية الكويتية 14/213 بتصرف.
([3]) لسان العرب 2/233 .
([4]) الموسوعة الفقهية الكويتية22/283.
([5]) الموسوعة الفقهية الكويتية22/283.
([6]) الأعراف: 157.
([7]) الحج 78.
([8]) المائدة 7.
([9]) البقرة 185.
([10]) النساء 28.
([11]) صحيح البخاري 1/16.
([12]) الموافقات للإمام الشاطبي1/520.
([13]) الأشباه والنظائر للسبكي 2/392.
([14]) الحج 78.
· ******************************
تعريف الفقه في اللغة والاصطلاح: الفقه لغة: الفهم والفطنة. يقال: افقه عني ما أقول أي: افهمه وافطنه. وقد استعمل الفقه في القرآن بهذا المعنى، قال تعالى -حكاية عن قوم شعيب-: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾ [سورة هود - 91]. لا يكفي التعريف اللغوي السابق لتصور حقيقة مصطلح: "الفقه الإسلامي" الذي نحن في مقام التعريف به؛ وذلك لأن الفقه في اللغة هو الفهم مطلقًا، أي: الفهم لأي شيء في الوجود، وهذا المعنى عام لا يتميز به مصطلح الفقه عن غيره؛ لأن الفهم كما يكون لأحكام الفقه يكون لغيرها مما يدخل في علم التفسير والحديث مثلا، بل يتعدى علوم الشريعة إلى غيرها من العلوم والمعارف. أما مصطلح "الفقه" عند علماء الشريعة فهو خاص بمعرفة نوع معين من المعلومات؛ لأنه يعني -ببساطة- معرفة الحكم الشرعي لكل عمل يصدر من الإنسان([1])في حياته، من غير استثناء.
وأما التعريف العلمي الدقيق لمصطلح الفقه فنعرفه فيما يأتي:
تعريف علم الفقه: يطلق علم الفقه في اصطلاح العلماء على معنيين هما: 1-العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبُ من أدلتها التفصيلية،وفي معناه قول ابن خلدون في مقدمته: "الفقه: معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين: بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة، وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا استُخرِجَت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها: فقه"([2]). 2-مجموعة الأحكام العملية المشروعة في الإسلام.
التعريف الأول: الفقه هو: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية. وهذا التعريف هو الذي استقر عليه مصطلح الفقه بعد أن مر بعدة أطوار بدأت بمعنى واسع، يعم معرفة جميع علوم الشريعة تحت اسم: "الفقه الأكبر"، ثم أخذ المصطلح يضيق معناه -بسبب كثرة العلوم الشرعية التي دونت عبر العصور وظهور الحاجة إلى تمييز بعضها عن بعض- حتى انتهى الأمر إلى قصر مصطلح الفقه على: العلم بالأحكام الشرعية العملية؛ وذلك ليتميز عن علم العقيدة الذي يعتني بالأحكام الشرعية الاعتقادية، وليتميز عن علم الأخلاق أو التصوف الذي يعتني بالأحكام الشرعية الوجدانية، كما سيتضح من خلال شرح التعريف.
شرح التعريف الأول: أولا:المراد بالعلم في هذا التعريف: الاعتقاد الراجح؛ لأن الأحكام الفقهية لم تثبت كلها بالعلم اليقيني، بل كثير منها ثابت بالظن القوي الراجح، الحاصل للفقيه من النظر في الأدلة الشرعية بناءً على قواعد الاستنباط، وعلى رأسها قواعد علم أصول الفقه. وهذا الظن القوي الراجح هو الذي تعبدنا الله تعالى به في الأحكام الفقهية، بمعنى أن الفقيه متى حصل عنده الظن القوي بأن الحكم الفلاني هو حكم الله تعالى في المسألة الفلانية، وجب عليه أن يعتقد هذا وأن يفتي به من يسأله عن الحكم الشرعي لهذه المسألة. كما أن المقلد للفقيه يجب عليه أن يعتقد هذا وأن يعمل به. واكتفاء الشارع بالظن القوي لوجوب الاعتقاد والعمل من الفقيه ومن يعمل بقوله -هو مظهر من مظاهر رحمة الله تعالى في هذه الشريعة؛ لأن الشارع - سبحانه وتعالى- لو ألزم الفقيه باستنباط الحكم عن طريق العلم اليقيني للزم من هذا أمران ينافيان حكمة الشارع -سبحانه وتعالى- وإرادته تحقيقَ مصالح العباد والتيسير عليهم: أما الأمر الأول: فهو عجز الفقيه عن بيان الحكم الشرعي في كثير من الوقائع والحوادث؛ لأنه -على هذا التقدير- ملزم بالوصول إلى الحكم بطريق العلم اليقيني القطعي، وهذا العلم القطعي قد لا يتوفر لديه في هذه المسألة؛ لأن الأدلة الواردة فيها قد تحتمل وجوها متعددة، وليست قاطعة في وجه واحد، فيقف الفقيه حينئذ عاجزا عن بيان الحكم الشرعي، وتضيق الشريعة، وتفقد مزية من أهم مزاياها، وهي قدرتها على تنظيم جميع حركات الإنسان في الحياة. وهذا خلاف ما أجمع عليه المسلمون من أنه يستحيل أن توجد حادثة أو واقعة أو مسألة تتعلق بأفعال العباد من غير أن يكون لله - سبحانه وتعالى- فيها حكم، وللشرع فيها بيان. فاقتضت حكمة الحكيم الخبير -سبحانه وتعالى- أن يرفع الحرج عن فقهاء الإسلام، بأن يكتفي منهم باستخراج الأحكام الشرعية بطريق الظن القوي الذي يحصل للمجتهد بتغليب بعض احتمالات الدليل على بعضها الآخر، كما غلَّب الشافعيُّ احتمالَ أن تكون الباء في قوله تعالى:﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾[المائدة: 6] للتبعيض، فقال: إن الواجب مسح بعض الرأس ولو بعض شعرة، بينما غلَّب أبو حنيفة احتمال أن تكون الباء للإلصاق، فانتهى إلى أن الواجب مسح ربع الرأس، وهكذا. الأمر الثاني:أنه لو ألزم الشارع -سبحانه وتعالى- الفقيه باليقين والقطع، لارتفع الخلاف؛ لأنالقطعيات لا تختلف فيها العقول، وهذا على خلاف مراد الشارع -سبحانه وتعالى-؛ لأن مقتضى حكمته ورحمته:الإذنُ بوقوع الخلاف في الشريعة؛ تبعا لاختلاف أنظار الفقهاء في الأدلة الشرعية التي تحتمل الدلالة على أكثر من معنى، وقد أذن الشارع بوقوع الخلاف؛ رحمة بعباده، الذين تتفاوت أحوالهم وتختلف طبائعهم ومشاربهم وبيئاتهم وظروفهم، فكان مقتضى الحكمة: أن تتنوع اجتهادات الفقهاء في تفسير النصوص المحتملة، فيكون في الشريعة من الفتاوى ما يناسب جميع العباد مهما اختلفت أحوالهم، قوة وضعفا، أو غنى وفقرا، أو غير ذلك مما يتفاضل فيه الخلق. فلا يبقى لأحد عذر في الإعراض عن شريعة الحق -سبحانه وتعالى-. ثانيًا: وقولهم في التعريف "الأحكام" جمع حكم، وهو: إسناد أمر لأمر أو نفيه عنه كإسناد العلم لعلي في قولنا: "علي عالم" ونفي الجهل عنه في قولنا: "علي ليس بجاهل". وهذا القيد يخرج به العلم بغير الأحكام، فلا يكون داخلا في تعريف الفقه، فيخرج به العلم بالذوات، والعلم بالصفات، والعلم بالأفعال. ثالثا: قولهم في التعريف: "الشرعية" أي: المستفادة من الشرع: إما بالنص، وإما بالإجماع وإما بالقياس، وإما بغير ذلك من الأدلة الشرعية المعتبرة. ولما كانت الأحكام منها ما هو شرعي ومنها ما هو غير شرعي، ذكروا في تعريف الفقه هذا القيد؛ ليخرج به العلم بالأحكام غير الشرعية، فيخرج به العلم بالأحكام العقلية، كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين، ويخرج به العلم بالأحكام الحسية كالعلم بأن النار محرقة، ويخرج به العلم بالأحكام الوضعية أو الاصطلاحية كالعلم بأن الفاعل مرفوع. رابعا: قولهم في التعريف "العملية" أي: الأحكام الشرعية المتعلقة بصفة عمل من أعمال العباد، ويعبر عنها بالأحكام الفرعية، وذلك كقول الجمهور: إن صلاة الوتر سنة، فهذا حكم عملي؛ لأنه متعلق بصفة عمل، والصفة هنا هي السنية، والعمل هو الوتر. وهذا القيد يخرج به الأحكام الشرعية غير العملية، وتشمل ثلاثة أنواع هي: الأحكام الاعتقادية كالعلم بوحدانية الله تعالى، والأحكام الوجدانية كحرمة الرياء والكبر، وأحكام علم أصول الفقه كحجية الإجماع ودلالة لفظ الأمر على الوجوب عند انعدام القرينة الصارفة له عن الوجوب. فهذه الأنواع الثلاثة من الأحكام قد تذكر في كتب الفقه على سبيل الشرح والتمثيل والبيان للحكم الفقهي، لكنها ليست داخلة في موضوع علم الفقه، بل كل واحد منها داخل في موضوع علم آخر. أما الأحكام الاعتقادية فتدرس في علم التوحيد أو العقيدة، وأما الأحكام الوجدانية فتدرس في علم الأخلاق أو التصوف، وأما أحكام علم أصول الفقه فتدرس فيه. خامسًا: وقولهم في التعريف "المكتسبُ" صفة للعلم أي: إن الفقه علم مكتسب من الدليل التفصيلي. والمكتسب هو الحاصل بالكسب، وهو مباشرة الأسباب بالاختيار([3]). و"المكتسب" قيد في التعريف يخرج به علم الله تعالى، وعلم الملائكة، وعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- المستفاد من الوحي مباشرة. سادسًا: وقولهم في التعريف: "من أدلتها التفصيلية" أي: من الأدلة التي تختص بجزئية معينة، كقوله تعالى:﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: 43] فإنه دليل جزئي خاص بالصلاة، ولا يتعداها إلى الصيام، أو غيره.([4]) و"التفصيلية" قيد يخرج الأحكام الشرعية المستفادة من الأدلة الإجمالية، والأدلة الإجمالية هي التي لا تختص بجزئية معينة، ومثالها: الأمر، والنهي، فمطلق الأمر دليل إجمالي يدل على حكم إجمالي هو الوجوب، ومطلق النهي دليل إجمالي يدل على حكم إجمالي هو الحرمة. ومما سبق يعلم أن "التفصيلية" قيد يخرج الأحكام الشرعية المكتسبة من الأدلة الإجمالية؛ لأنها داخلة في موضوع علم أصول الفقه. شرح التعريف الثاني: تقدم أن المعنى الثاني للفقه هو:"مجموعة الأحكام العملية المشروعة في الإسلام"([5]). وشرح هذا التعريف يفهم مما سبق. والفرق بين المعنيين أن الفقه على المعنى الأول هو معرفة الأحكام، وعلى المعنى الثاني هو نفس الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين. والمعنى الثاني هو الشائع في العرف العلمي، وهو المتبادر إلى الأذهان، فمن يسمع لفظ الفقه يتبادر إلى ذهنه: الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين: من حل وحرمة وغير ذلك. وهذا المعنى هو المراد في نحو قولك: "درست الفقه الإسلامي"([6]). وهو المراد بمادة "الفقه الإسلامي"، التي تدرس في كليات الشريعة وغيرها من الكليات الدينية. موضوع علم الفقه: مما سبق يتبين لنا أن علم الفقه يُبحث فيه عن الأوصاف الشرعية لأفعال المكلَّفين([7])من: الحل والحرمة والوجوب والندب والكراهة وغير ذلك([8]). فقد أجمع المسلمون على أنه لا يخلو فعل للمكلَّف من حكم يبين مراد الله -سبحانه وتعالى- فيه، فكان لا بد من علم يبين أحكام الله -سبحانه وتعالى- في كل فعل يصدر من المكلف حال حياته، حتى يتمكن العبد من التمييز بين الحلال والحرام، فيؤدي ما أمره الله به من الواجبات على سبيل الإلزام، وما أمره الله به من المندوبات على سبيل الأفضلية، ويترك ما نهى الله عنه من المحرمات على سبيل الإلزام، وما نهى عنه من المكروهات على سبيل الأفضلية، ويتخير المكلف في المباحات التي لم يرد فيها أمر ولا نهي. وبهذا يتمكن العبد من أداء ما خُلِق له -وهو: عبادة الله -سبحانه وتعالى- وعمارة الكون- ولا يتم له ذلك إلا بمعرفة الفقه، وهذا ينقلنا للحديث عن المقدمة التالية من مقدمات الفقه وهي: حكم تعلم الفقه. حكم تعلم الفقه: تبين في المقدمة السابقة أن العبد لا يتمكن من أداء العبادة التي خلق لها وأمر بها إلا بمعرفة الفقه. ومن القواعد الشرعية المقررة أن: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، فينتج من هاتين المقدمتين أن تعلم الفقه واجب في الجملة؛ لتوقف أداء العبادة عليه. وإنما قلنا: "واجب في الجملة"؛ لأن العبد لا يجب عليه أن يتعلم جميع أحكام الفقه؛ لأن هذا لا يقدر عليه أكثر الناس، وإنما المطلوب من كل إنسان أن يتعلم من علم الفقه ما يتوقف عليه أداء ما أمره الله به وترك ما نهى الله عنه. ويتم هذا بتعلم مقدار عام ومقدار خاص. أما المقدار العام فهو ما يجب على كل إنسان أن يتعلمه حتى يقيم به فرائض الأعيان التي تجب على كل مسلم ومسلمة، كالوضوء والصلاة والصيام، وغير ذلك. ويَدخُل في هذا المقدار العام أيضًا الأحكامُ الفقهية التي يتوقف على معرفتها تركُ المحرمات التي نُهي كل مسلم عن إتيانها، كالزنا، والسرقة، والغش، وغيرها. وأما المقدار الخاص:فهو الذي يجب على المسلم أن يتعلمه قبل أن يُقدِم على عمل بعينه من الأعمال التي وجبت عليه، لكنها لم تجب على جميع المكلفين؛ لأن وجوبها متوقف على شروط وأوصاف يقدر عليها بعض الناس ولا يقدر عليها بعضهم الآخر. وبيان ذلك: أن الحج مثلا لا يجب وجوبًا عامًّا على كل مسلم كوجوب الصلاة مثلا، وإنما يجب على المسلم بشرط الاستطاعة، وهذا الشرط لا يتوفر لكثير من المسلمين، فهؤلاء لا يجب عليهم أن يتعلموا أحكام الحج؛ لأن المقصِد -وهو الحج- لم يجب عليهم، فلا تجب الوسيلة، وهي: تعلم أحكامه. أما من وجب عليه الحج -لتوفر شروط الوجوب في حقه- فيجب عليه حينئذ أن يتعلم الأحكام الفقهية التي يتوقف عليها أداءُ الفريضة كما شرعها الله -سبحانه وتعالى-؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما تقدم. هذا وقد تقدم أنه لا يجب على كل إنسان أن يتعلم جميع أحكام الفقه، والمراد بهذا: أنه لا يجب وجوبا عينيًّا على كل مكلَّف، إلا أنه يجب وجوبا كفائيا، على معنى: أنه لا بد وأن يوجد في الأمة الإسلامية من يحيط بجميع الأحكام الفقهية، إما بأن يعرفها بالفعل، وإما بأن تكون لديه القدرة على معرفتها من خلال النظر في الأدلة بناءً على قواعد الاستنباط، وذلك مصداقا لقول الحق -سبحانه وتعالى- : ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ....﴾ [التوبة: 122]. وإنما وجب أن يوجد في الأمة عددٌ كافٍ من الفقهاء الذين يحيطون علما بأحكام الشرع؛ لأن إقامة الدين والحفاظ على المجتمع الإسلامي لا تتأتى إلا بوجود من يرشد الناس إلى مراد الله -سبحانه وتعالى- منهم في كل شأن من شؤون حياتهم، وإلا لو ترك الناس وشأنَهم من غير هادٍ يهديهم، لعمِل كلُّ ذي رأي برأيه وهواه، فيضيع الدين، ويذهب الأمن، ويحِقُّ على الدنيا الزوال والفناء؛ لأن الأهواء تتصادم، والرغباتِ تتنازع، فتحلُّ شريعةُ الغاب محلَّ شريعة رب الأرباب -سبحانه وتعالى-.
(الأفوه الأودي) قال الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراةَ لهم ولا سراةَ إذا جهَّالهم سادوا
ولهذا اقتضت حكمة الله -سبحانه وتعالى- أن يكون قبضُ العلم -بقبض العلماء- من علامات نهاية الدنيا وقرب قيام الساعة، مصداقا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا.....الحديث)). كيفية تعلم الفقه: عرفنا في المقدمة السابقة أن كل مسلم مطالب بأن يتعلم من علم الفقه ما يتوقف عليه تصحيح العبادة، وترك المحرمات، وهنا قد يثور في الذهن سؤال فحواه:ما السبيل الأمثل لتعلم الفقه؟ الجواب باختصار: هو أن السبيل الأمثل – بل الواجب- لتعلم الفقه الواجب هو الطريق الذي من خلاله يفهم المكلف أحكام الشرع فهمًا صحيحًا؛ وقضية الفهم الصحيح من الخطورة بمكان، حتى يجب على كل واحد حريص على دينه أن يعتني بها أشد العناية. وذلك لأنا عرفنا فيما سبق أن العلم طريق العمل، وأن صحة العبادة تتوقف على معرفة الأحكام الفقهية لها، فالعبادة إذًا مبنية على الفقه، والبناء السليم لا يمكن أن يقوم على أساس مختل، بل على أساس صحيح، والأساس الصحيح للعبادة هو الفهم السليم للأحكام الفقهية المتعلقة بها، فكم من أناس أتعبوا أنفسهم في العبادات ثم اكتشفوا أن ما بذلوه من الجهد والمال ضاع سدى؛ لأنهم لم يحرصوا على الفهم الصحيح من العلماء الثقات، وكم من أناس وقعوا في المحرمات والموبقات فهلكوا وأهلكوا، وضلوا وأضلوا؛ بسبب الفهم المغلوط والتصور الفاسد لأمور الشرع. فكان من الواجبات على المسلم الحريص على سعادته في الدنيا ونجاته في الآخرة -أن يتعلم الفقه الواجب عليه عن طريق العلماء الثقات الذين تعلموا في المؤسسات العلمية الموثوق فيها -كالأزهر الشريف- أو على الأقل تلقنوا العلوم الشرعية وفقا للمنهج العلمي الصحيح على أيدي علماء الأزهر الشريف، ومن يماثلهم من العلماء الثقات في البلدان الأخرى، بشرط أن يكون هذا العالم مأذونا له بالتعليم والإفتاء. ولا يجوز للمسلم أن يتساهل في أمر دينه ويتلقى الفقه من إنسان يختاره بناء على شهرته وظهوره في المساجد، أو بعض القنوات الفضائية؛ لأن الشهرة ليست دليلا على العلم الصحيح. بل إن الواقع المرير أسفر عن أن أغلب المشتهرين اليوم لم يتعلموا الفقه وعلوم الشريعة على المنهج الصحيح، بل اعتمدوا في التعلم على قراءتهم الخاصة، وفهمهم الخاص، أو على بعض المتصدرين من غير العلماء الثقات، فتشكلت لديهم عقلياتٌ تحمل تصوراتٍ مشوهة عن الإسلام وعقيدته وشريعته، يشوبها الإفراط تارةً، والتفريط تارة أخرى. ثم زادوا الطين بلة، بأن فتنوا بحب الظهور والشهرة -والثراء أحيانًا- فتعجلوا في التصدر والظهور في حقل العلم الشرعي، ثم تمادَوا في غيهم، وظنوا أن ما تحقق لهم من الشهرة وقبول الناس -المبني على حسن الظن- جعلهم في مرتبة أعلى من مرتبة العلماء الثقات، فقابلوا هؤلاء العلماء بالطعن فيهم وتشويه صورتهم في أذهان العامة، واستعانوا في هذا بالطعن الآثم في المؤسسات التي تخرج منها هؤلاء العلماء، كالأزهر الشريف، ناسين أن هذه المؤسسة يأتيها المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها على مدار ثمانمائة عام؛ ليتعلموا فيها الإسلام، وأن هذه المؤسسة هي التي حفظ الله بها الدين وحرس بها الملة في أحلك الفترات التي مرت بها الأمة، لا سيما في زمن اجتياح التتار لأقطار العالم الإسلامي، إذ وجد علماء الإسلام أن الملاذ الآمن والحصن الحصين هو الأزهر الشريف في مصر المحروسة، التي عجز التتار عن تدنيس أرضها الشريفة بعد أن صدهم أبناؤها البواسل من المجاهدين والأمراء الذين كانوا يأتمرون بأمر علماء الأزهر الشريف، ويرجعون إليهم في صغار الأمور وكبارها. فعلى المسلم أن يتحلى بالوعي وألا يكون إمعةً يسمع كلام كل ناعق من غير بصيرة، وليحتط لدينه، وليقصد العلماء العاملين الذين أفنوا أعمارهم في حفظ هذا الدين وتعليمه للناس، وألا يستمع إلى تشكيك المشككين، ولا ترجيف المرجفين. كما لا يجوز التساهل في الاختيار بناءً على طول اللحية، أو المظهر، أو حسن الصوت في قراءة القرآن، كما يفعل بعض العوام من المسلمين؛ لأن العلم والفقه شيء، والتدين وإحسان تلاوة القرآن شيء آخر، وكم رأينا من أناس التزموا بالمظهر المأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم-ومع ذلك فهم من أجهل الناس بالفقه. وكم رأينا من قراء أحسنوا حفظ كتاب الله وأتقنوا تلاوته، ومع ذلك فهم في معرفة الفقه كعوام الناس سواءً بسواء. والخلاصة:
أن المسلم يجب عليه أن يتلقى المقدار الواجب من الفقه على أيدي المتخصصين الثقات، ثم بعد ذلك يكون على اتصال بهم، حتى إذا ما حدث له أمر يحتاج إلى الفتوى لجأ إليهم للاستفتاء. وأما كتب الفقه وغيرها من الكتب التي تتناول بعض الموضوعات الإسلامية فلا يمنع المسلم من قراءتها، بل القراءة أمر محمود ومطلوب، لكن بشرط ألا يكون اعتماده في تعلم المقدار الواجب عليه على هذه الكتب، بل يتعلم هذا المقدار بواسطة العلماء، ثم يلجأ إلى الكتب لغرض التثقيف، وزيادة الوعي بالشريعة، واستثمار وقت الفراغ ونحوه في أشرف المقاصد عند العقلاء، ومجالسة خير الجلساء، كما قال الشاعر:
وخيرُ جليس في الزمان كتاب
ولا يليق بالمسلم أن يهمل القراءةفي زمان تتسابق فيه أمم الكفر في مضمار العلم والمعرفة، كيف وقد كان أول ما نزل على حبيبه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كلمة: "اقرأ"؟ لكن على المسلم أن يحرص على اختيار الكتاب الموثوق فيه؛ إذ ليس كل كتاب يطبع وينشر في الأسواق يتضمن المعلومة الصحيحة، وليس كل من يكتب في أمور الدين يتقي الله -سبحانه وتعالى- فيما يقدمه للناس، فعلى المسلم الحريص على دينه أن يستشير العلماء الثقات في الكتب التي يقرؤها وهو مطمئن على دينه في زمان كثرت فيه الفتن والشبهات، وصار القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر. كما ينبغي الحذر من أن يجعل الكتاب بديلا للمفتي، بحيث إذا ما حدث له أمر يحتاج إلى الفتوى تكاسل عن اللجوء إلى الفقهاء، وتوجه إلى الكتاب يستفتيه؛ لأن القارئ قد يخطئ في الفهم ولا يجد من يصحح له فهمه، فيبني عمله على فهم خاطئ ربما أدى به إلى الهلاك والإهلاك، وكم رأينا من أناس تكاسلوا عن اللجوء للعلماء اعتمادا على فهمهم الخاص للكتب، فكانت عاقبة أمرهم هي الخسران والشقاء؛ لأن اتباع الهوى لا يأتي بخير. انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ([1]) التعبير بـ"الإنسان" هنا على سبيل التغليب؛ لأنّ الأصح: أن الجن مكلفون بأحكام الشريعة، كالإنس سواءً بسواء. ([2]) مقدمة ابن خلدون - (1 / 445). ([3]) المدخل للدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية (ص 36). ([4]) الوجيز في أصول التشريع للدكتور محمد حسن هيتو. ([5]) المدخل الفقهي العام للدكتور مصطفى الزرقا (1/65). ([6]) المدخل الفقهي العام للدكتور مصطفى الزرقا (1/66). ([7]) المكلَّف: هو البالغ العاقل الذي بلغته الدعوة. ويحصل البلوغ بالاحتلام في الذكر، وبالحيض في الأنثى، فإن تأخر الاحتلام أو الحيض حكم البلوغ إذا تم له خمس عشرة سنة. ([8]) الغرر البهية شرح البهجة الوردية لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (1/8) ط: المطبعة الميمنية.
التعريف اللغوي: لَفَقَ الثَّوبَ يلْفِقُه لَفْقًا: ضمَّ شُقّةً إلى أخْرى فخاطَهما كَمَا فِي الصّحاح. ولَفَقَ فُلانٌ الأمرَ لَفْقًا: طَلَبه فَلم يُدْرِكْه([1])والتّلْفيقُ: ضمُّ إحْدى الشُّقّتين إلى الأخْرى، فتخِيطُهما، وَهُوَ أعمُّ من اللَّفْقِ. وَفِي العُباب: التّلْفيقُ فِي الثِّياب: مُبالَغَة فِي اللَّفْقِ. قلت: وَمِنْه أُخِذَ التّلْفيقُ فِي المسائِل([2]). التعريف الاصطلاحي: يستعمل علماء الفقه والأصوليون مصطلح "التلفيق" ويقصدون به معاني متعددة.
منها التلفيق بمعنى الضم ، كما في المرأة التي انقطع دمها فرأت يومًا دمًا ويومًا نقاءً([3])، والركعة الملفقة في صلاة الجمعة للمسبوق([4])، ويستعمل في غير ذلك من المعاني. وقد يطلق "التلفيق" ويراد منه العمل في حادثةٍ بمذهب، وفي أخرى بمذهب آخر. وهذا المعنى جائز شرعًا على قول جماهير الأمة؛ وذلك لأن المستفتين في كل عصر من زمن الصحابة ومن بعدهم كانوا يسألون مفتين مختلفين فيما يعنّ لهم من المسائل ويعملون بمقتضى قولهم. ويستخدم التلفيق بمعنى آخر ، وهو الذي نريد الحديث عنه؛ هو جمع المجتهد أو الفقيه أو المفتي بين أقوال مختلطة وشروط مختلفة للفقهاء في حكم مسألة واحدة معينة؛ بما يعني حدوث قول جديد لم يقل به أحد من الفقهاء المجتهدين الأقدمين، وهو في نفس الوقت ليس خارجًا عن جميع أقوالهم ولم يخالف في قوله هذا إجماع الأمة. وبعبارة أخرى: أخذ صحة فعل بعينه من أفعال المكلف من مذاهب متعددة بما لا يؤدي إلى الحكم ببطلان هذه الصورة على سائر أقوال المجتهدين ولا يخالف ذلك إجماع الأمة. التلفيق وصحة تقليد العامي للمجتهد: من القواعد التي اتفق عليها العلماء أن العامي لا مذهب له، وإنما مذهبه مذهب مفتيه، قال الإمام ابن نجيم في البحر الرائق: "وإن كان عاميًّا ليس له مذهب معين فمذهبه فتوى مفتيه"([5])، وقال في عبارة أخرى: "مذهب العامي فتوى مفتيه من غير تقييد بمذهب"([6]). وهذه العبارة حقيقة في التلفيق بين أقول العلماء في مسائل الدين عامة من خلال الفقه الإسلامي كله لاسيما المذاهب المعتمدة. حتى قال الشيخ بخيت المطيعي -رحمه الله-: "إن العلماء قد أجمعوا على صحة تقليد العامي للمجتهد الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد"([7]). ومستندهم في ذلك أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله سبحانه على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب معين من مذاهب الأئمة. التلفيق وإحداث قول ثالث في المسألة: الحديث هنا إنما هو عن التلفيق في المسألة الواحدة من خلال مذاهب الفقهاء المجتهدين على اتساع أقوالهم في الفقه الإسلامي. والخلاف بين العلماء في جواز التلفيق بهذا المعنى الأخير وعدم جوازه مبناه على أنه هل يجوز قيام المجتهد بإحداث قول ثالث في المسألة الواحدة والذي يترتب على (أخذه صحة فعل من أفعال المكلف من مذاهب متعددة)، أم لا؟ والصحيح جواز الاجتهاد وإحداث قول ثالث مركب من القولين بأن يأخذ بقول أحد المجتهدين في حادثة، وبقول الآخر في حادثة أخرى إذا لم يخرق إحداث هذا القول الثالث إجماع من قبله من الفقهاء والمجتهدين([8]). وبناء على جواز تقليد العامي للمجتهد مطلقًا، وجواز إحداث قول ثالث في المسألة يجوز التقليد مع التلفيق. وعلى هذا الفرض فإنه يكون اجتهادًا جديدًا للمجتهد في المسألة المدروسة وليس خروجًا عن قول المجتهدين القدامى. وإن من يبطل التلفيق بهذا المعني (الذي هو إحداث قول جديد خارج عن أقول الفقهاء القدامى في مجمله)، إنما يقولون ببطلانه في حال أخذ المكلف باجتهاد الفقيهين اللذين كون رأيه الفقهي بالاختيار منهما ، فكان أن خرج بكلام جديد ليس هو قول الفقيه الأول ولا هو قول الفقيه الثاني فخرج بصورة ليست مرضية عندهما، وإنما هي اجتهاده هو وقد استوفى أدوات الاجتهاد. فبطلان حكم عمله في هذه الحالة بناء على قول الفقيه الأول وقول الفقيه الثاني، أما على قول الفقيه الثالث فعمله صحيح؛ لأنه في هذه الحالة يصدق عليه - أي المكلف - أنه خالف مذهب أحد المجتهدين في جميع ما شرطه ووافق مذهب مجتهد آخر فنحكم بصحة عمله. ومن هذا يعلم أن مسألة التلفيق مبنية على مسألة إحداث قول ثالث إذا انحصر خلاف المجتهدين في عصر في قولين. ففي كل موضع يمتنع فيه إحداث القول الثالث يمتنع فيه جواز أخذ المقلد بالتلفيق في المسألة الواحدة، ويحصل ذلك إذا كان القول الثالث مخالفًا للإجماع، ففي هذه الحالة يمتنع فيه التلفيق، وأيضًا إذا خالفت الصورة المركبة التي قال بها المجتهد الثالث الإجماع، وأما إذا وافق بعض هذه الصورة التي أدى إليها اجتهاد المجتهد الثالث قول مجتهد وخالف بعضها قول مجتهد آخر، فإنه في هذه الحالة يكون قولا معتبرًا ما لم يخرج عن إجماع الأمة. قال الإمام السبكي في الإبهاج: "إنه إذا اختلف أهل العصر في المسألة على قولين: هل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟ وفيه ثلاثة مذاهب: الأول: المنع مطلقًا وعليه الجمهور. والثاني: الجواز مطلقًا وعليه طائفة من الحنفية والشيعة وأهل الظاهر. والثالث: وهو الحق عند المتأخرين وعليه الإمام واتبعه الآمدي؛ أن الثالث - إن لزم - رفع ما أجمعوا عليه لم يجز أحداثه و إلا جاز([9]) ". الفرق بين التقليد والتلفيق: التلفيق المقصود هنا هو المعنى الثالث من المعاني المتقدمة، وهو ما كان في المسألة الواحدة بالأخذ بأقوال عدد من الأئمة فيها. أما الأخذ بأقوال الأئمة في مسائل متعددة فليس تلفيقًا وإنما هو تنقل بين المذاهب أو تخير منها. وهو نوع من التقليد الذي أجازه جماهير العلماء وقد سبق بيانه. وينظر التفصيل في مصطلح (تقليد). مثال التلفيق بين المذاهب: ومثاله: متوضئ لمس امرأة أجنبية بلا حائل وخرج منه نجاسة كدم من غير السبيلين، فإن هذا الوضوء باطل باللمس عند الشافعية، وباطل بخروج الدم من غير السبيلين عند الحنفية، ولا ينتقض بخروج تلك النجاسة من غير السبيلين عند الشافعية، ولا ينتقض أيضًا باللمس عند الحنفية، فإذا صلى بهذا الوضوء، فإن صحة صلاته ملفقة من المذهبين معًا([10]). التلفيق مرفوض إذا خالف الإجماع: وأما إذا كان التلفيق خارقًا للإجماع بأن كانت الحقيقة المركبة يقول ببطلانها جميع المجتهدين، ولا يمكن لمجتهد آخر على فرض وجوده أن يقول بها كحرمان الجد من الميراث بالكلية، فالتلفيق باطل بالإجماع.كما أن إحداث قول بحرمان الجد بالكلية باطل بالإجماع. وإنما لم يعد القول الملفق من قولين للفقهاء أو أقوال مجتمعة معارضًا للإجماع لكونه حاصلاً في الأمة لو كان بجملته لا بتفاصيله، فيصدق على الأمة أنها لم تخلُ منه ولم تجتمع على غيره. وبطلان القول في هذه الحالة إنما هو لكونه خارقًا للإجماع وحجية الإجماع متفق عليها عند عموم الفقهاء. مكان التلفيق في الفتوى: التلفيق أداة ووسيلة قد يحتاج المجتهد والفقيه والمفتي إلى اللجوء إليها بشروطها المذكورة، للتخير من المذاهب المتعددة والفقه الإسلامي الوسيع ؛ بغية التيسر على المسلم في تطبيق أحكام الشريعة المطهرة. كما أنه يعتبر وسيلة للاستفادة من الاجتهادات الفقهية المتعددة والتراث الفقهي الكبير الذي ورثته الأمة الإسلامية عبر قرون متعددة ومن ثقافات متنوعة وحضارات مترامية، وفي الوقت ذاته يمثل مفهوم التلفيق فكرة عبقرية لكيفية التعامل مع الواقع المتغير المتشابك بدون خروج عن فهم العلماء السابقين لمعالم المنهج الفقهي عبر عصور الإسلام المختلفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ([1]) تاج العروس 26/ 360. ([2]) تاج العروس 26/ 361. ([3]) الموسوعة الفقهية الكويتية 13/ 286. ([4]) السابق. ([5]) البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري 2/ 90. ([6]) البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري 2/ 316. ([7]) الفتاوى الإسلامية من فتاوى دار الإفتاء المصرية 4/ 1456. ([8]) الفتاوى الإسلامية من فتاوى دار الإفتاء المصرية 4/ 1457. ([9]) الإبهاج في شرح المنهاج 2/ 369. ([10]) الموسوعة الفقهية الكويتية 13/ 294
*********************************
يعتاد الناس كثيرًا من الأشياء في حياتهم لأسباب مختلفة أو حتى لغير ما سبب، يفعلون ذلك في طريقة الحديث وصياغة الألفاظ وارتداء الأزياء وبناء المباني وسلوك طرق معينة في إدارة شؤون المؤسسات، وتلقي العلم وقضاء الأوقات..... إلى غير ذلك من شؤون الحياة.
فماذا عسى أن يكون موقف الشرع الشريف من مثل هذه العادات؟ وكيف يتعامل معها؟ هل ينظم كل صغيرة وكبيرة من هذه الشؤون؟ أم ينظم البعض ويسكت عن غيره؟
وهل العادات تؤثر في الشرع وأحكامه؟ أم أنه لا تأثير لها في الحكم على الأقوال والأفعال؟
لتناول الإجابة عن هذه الأسئلة، يجدر بنا البدء بتعريف العادة في اللغة واصطلاح علماء الفقه والأصول.
تعريف العادة([1]):
العادة مأخوذة من العود، أو المعاودة، بمعنى التكرار والدأب والاستمرار.
واختلف الفقهاء والأصوليون في تعريفها اصطلاحًا، فذكر بعضهم أنها: الأمور المتكررة من غير علاقة عقلية، وعرفها بعضهم بأنها: غلبة معنى من المعاني على جميع البلاد أو بعضها، وعرفها بعضهم بأنها: تكرار الشَّيء وعوده مرة بعد أخرى تكرارًا كثيرًا يخرج عن كونه واقعًا بطريقِ الصُّدفة والاتفاق.
وتكرار الأمر حتى يعتبر عادة إنما هو بحسب الغالب؛ لأن العادة تثبت في بعض الأحيان بالحصول مرة واحدة، كما في الحيض، وذلك لمقتضٍ خاص وهو عدم التخلف غالبا بعد حصوله مرة.
والتقييد بكون العادة تَكَرُّرَ أمرٍ من غير علاقة عقلية، يعني اشتراط انقطاع هذه الصلة العقلية التي تكون مدار تعليل الفعل، فإنها لا تكون من قبيل العادات، فالعادة أمر يعتاده الناس بتوافق بينهم من غير سبب عقلي، كاعتياد سير القطارات في العديد من البلدان على الجانب الأيسر بالنسبة لاتجاهها، وسير السيارات على الجانب الأيمن بالنسبة لاتجاهها كذلك، فهذا يعتبر عادة، لأنه من غير علاقة عقلية، إذ يمكن أن تسير القطارات والسيارات عكس الاتجاه الذي تسير فيه، وهذا يحدث أحيانًا في أوقات الأعطال والصيانة، من غير ضرر.
على أن العلاقة العقلية غير متفق عليها بين الفقهاء والأصوليين، فالفقهاء لم يتمسكوا بنفي العلاقة العقلية عن تكرر الأمر لاعتباره عادة كما فعل الأصوليون، وعليه فإن تعريف الفقهاء أعم من تعريف الأصوليين، وبالتالي يَعْتَبِرُ الفقهاءُ أشياءَ من قبيل العادة ولا يعتبرها الأصوليون([2]).
ومن المصطلحات المتصلة بالعادة اتصالا وثيقًا، العرف: وهو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، ويدخل في هذا التعريف "العادة" على أنهما مترادفان، وقيل: العادة أعم؛ لأنها تثبت بمرة، وتكون لفرد أو أفراد.
فالعرف والعادة لفظان بمعنى واحد من حيث الماصَدَق - أي من حيث ما يدل عليه لفظاهما اصطلاحاً ويصدقان عليه، وهو العادة المعروفة - وإن كانا مختلفين من حيث المفهوم - اللغوي - حيث إن مفهوم كل واحد منهما مختلف عن الآخر، فالعادة هي العود والتكرار، والعرف هو المتعارف.
وفرق بعضهم بين العرف والعادة: بأن العادة هي العرف العملي، بينما المراد بالعرف هو العرف القولي، وقد فرق بعض العلماء المُحدَثين بين مدلولي العرف والعادة، فأطلق العادة على ما يشتمل عادة الفرد والجماعة، وخص العرف بعادة الجماعة حيث عَرَّفه بأنه (عادة جمهور قوم في قول أو عمل)، فبينهما عموم وخصوص مطلق، وبعضهم يسوي بينهما، في حين يجعل آخرون أحدهما أعم من الآخر على خلاف وتفصيل بين الأصوليين([3]).
أقسام العادة:
قسم الإمام الشاطبي في الموافقات([4]) العادة إلى قسمين، أطلق على أحدهما:
العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا، أو نهى عنها كراهة أو تحريما، أو أذن فيها فعلا وتركًا، كالتطهُّر من النجاسات، وستر العورة في الصلاة، فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع، فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيها أو تغيرت عاداتهم بشأنها، فلا يصح أن يقال إن نظام الطلاق الآن لا يلائم ما وصل إليه المجتمع من الرقي وتأباه محاسن العادات، وإن القصاص في القتل وحشية تتنافي مع مدنية الدولة، أو إن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح، فلنجزه، أو غير ذلك، إذ لو صَحَّ مثل ذلك لكان نسخًا للأحكام المستقرة المستمرة.
وأما القسم الثاني فهي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي، وينقسم إلى قسمين:
1- العادة الثابتة: التي لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال، كوجود شهوة الطعام والشراب والكلام والمشي والنظر.
2- العادة المتبدلة: وهي التي تختلف بما تقدم، وأنواعها كثيرة، فمنها ما يكون تبدله بسبب أمر طبيعي كاختلاف الأقطار حرارة وبرودة حيث تختلف بسببها العادة في إسراع البلوغ وإبطائه ومدة الحيض وزمان معاودته وسن انقطاعه، ومدة الحضانة، والمدة التي يحكم بعدها بموت المفقود، وغير ذلك.
ومنها ما يكون تبدله في الأقوال كاختلاف الألفاظ واللهجات في العلوم والصناعات والأقاليم المختلفة في التعبير عن المقصود وفهمه.
ومنها ما يكون تبدله في الأفعال كعادة البيع بالتقسيط.
ومنها ما يكون تبدله في الأوصاف من حسن إلى قبح والعكس، ككشف الرأس للرجال، يعد قبيحًا في بعض الأماكن، ومستحسنًا في غيرها، وكألوان الثياب، قد تكون مستحسنة في مكان ومستقبحة في آخر.
والحق أن تغير الأحكام بتغير الزمان من سنة الله تعالى في الخلق، فإنه تعالى حين بدأ الخلق أباح نكاح الأخ للأخت لقلة الذرية، ثمَّ لمَّا حصل الاتساع، وكثرت الذرية، حرم ذلك في زمن بني إسرائيل.
فحكم العادات غير الشرعية أو العوائد الجارية أن الأحكام تنبني عليها، فما كان منها ثابتًا فالحكم المترتب عليه ثابت أبدًا، وما كان منها متبدلا فالحكم المبتنى عليه يختلف بحسبه، ككشف الرأس: يؤثر في مروءة الشخص وعدالته بحسب اختلاف المكان، ولون الثياب أو طريقة تصميمها وحياكتها قد يكون من العيوب التي يرد بها المبيع وقد تكون من المحبوبات التي يُطلب لأجلها بحسب اختلاف الزمان والمكان، وقديمًا كانت الديار متساوية الحجرات وعلى طراز واحد، ثم صارت بعد ذلك مختلفة مساحات وإمكانات حجراتها ومرافقها، فتبع هذا اختلاف الحكم فيما تحصل به رؤية المبيع وما يفيد المقصود بالعلم عند الشراء، فكانت الرؤية تحصل برؤية حجرة واحدة، ثم صارت هذه الرؤية غير كافية في حصول الرؤية.
قال الإمام مالك: (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا)، يعني كلما أحدثوا من الأفعال والعادات فإن علماء الشرع يجتهدون في بيان أحكامها وفق قواعد وأصول ومقتضيات الاستدلال والاستنباط.
ونقل القرافي في الفروق الإجماع على أن الأحكام المترتبة على العوائد، تدور معها إذا دارت([5])، ومن السنة قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم) رواه البخاري ومسلم، وقوله: (لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ولأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل) رواه أحمد والترمذي، وجه الدلالة أن كلمة لولا في الحديثين أفادت امتناع أحكام بسبب اعتبار عادات الجاهلية الأولى، بحيث لو تغيَّر بناء الكعبة لحصل من المفاسد ما يزيد على مصلحة التغيير، وهو الارتداد إلى الشرك، ومنع الآخريْن طبيعة أفراد المجتمع الذين يشُقٌّ عليهم معها هذا التكليف، فدلَّ هذا على مشروعية تبدُّل الأحكام بتغيُّر العادات.
وحديث ابن عباس (كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم) رواه مسلم، يدل بالرغم من اختلاف العلماء في تأويله على تغير الحكم تبعًا لتبدل العادات.
وقد خالف الفقهاء أئمة مذاهبهم في كثير من الأحكام؛ لأنهم كانوا قد بنوا اجتهاداتهم فيها على أحوال أزمنتهم، فلو وجد هؤلاء الأئمة في أزمنة أتباعهم لقالوا كما قال أتباعهم.
قواعد العادة([6]):
تحكم قضية العادة عدَّة قواعد استنبطها العلماء، تأتي على رأسها قاعدة كلية هي (العادة مُحَكَّمَة) وتتفرع عنها قواعد أخرى، ويقصد بقاعدة (العادة مُحَكَّمَة) أن العادة فإنها تجعل حكَمًا لإثبات حكم شرعي سواء كانت عادة عامة أو خاصة إذا اطَّرَدَتْ ولم يوجد التصريح بخلافها، ولم تخالف نصًّا شرعيًّا أو شرطًا لأحد المتعاقدين([7]).
وأصل هذه القاعدة قول ابن مسعود: (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح)([8])، ثم إذا لم يَرِدْ نصٌّ يشملها فلا كلام في اعتبارها، فقد نقل ابن عابدين أن العادة إحدى حجج الشرع فيما لا نصَّ فيه، ونقل أيضًا أن البناء على العادة الظاهرة واجب.
ومن القواعد الفرعية قاعدة (الممتنع عادة كالممتنع حقيقة) فكما أن الممتنع حقيقة لا تسمع الدعوى به ولا تقام البينة عليه للتيقن بكذب مُدَّعيه، كادِّعَاء شخص على آخر يصغره بسنوات قليلة بأنه ابنه، فكذلك الممتنع عادة، كدعوى شخص معروف بالفقر على آخر أموالا كثيرة، لم يُعْهَد أنه أصاب مثلَها بإرث أو بغيره.
وقاعدة (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان) فقد كان الأقدمون يرون أن الدائن ليس له استيفاء دينه من مال المدين حال غيبته، إلا إذا كان من جنس حقه، ثم لما كثر عقوق الناس وإنكارهم للحقوق وتهربهم من أدائها أجاز الفقهاء للدائن استيفاء دينه ولو من غير جنس حقه.
ومن القواعد الفرعية أيضًا (استعمال الناس حجة يجب العمل بها) و(الحقيقة تترك بدلالة العادة).
ومما سبق ذكره يتبين أن معرفة المفتي والمجتهد لعادات مجتمعه من الأمور الهامَّة التي يحتاج إليها في التوصل إلى الأحكام التي تلائم المجتمع وتتفق ومقتضيات الشرع الشريف وأن هذه العادات ينبني عليها الكثير من الأحكام الشرعية، فلا سبيل إلى تجاهلها، بل يجب اعتبارها وبيان الحكم الشرعي فيها سواء بالإباحة أو بالمنع، حفظًا لدين الله على الناس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - انظر.. العرف والعادة في رأي الفقهاء للشيخ أحمد فهمي أبو سنة: ص 10 وما بعدها، والموسوعة الفقهية الكويتية مصطلح عرف ومصطلح عادة.
[2] - انظر.. الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية: د. محمد صدقي بن حسن البورنو، ص 247 ، 275، ط مؤسسة الرسالة.
[3] - المرجع السابق ص 276.
[4] - انظر.. الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي: ج2 ص283 وما بعدها، ط دار الفكر العربي.
[5] - انظر.. الفروق للقرافي: ج 1، ص 322، ط دار الكتب العلمية، بيروت.
[6] - شرح القواعد الفقهية للزرقا: ص 219 وما بعدها، ط دار القلم.
[7] - د. محمد صدقي بن أحمد البورنو: موسوعة القواعد الفقهية، ج7 ص 338، ط مؤسسة الرسالة.
[8] - [كنز العمال 35590]، وهذا الحديث وإن كان موقوفًا إلا أن له حكم المرفوع؛ لأنه لا مدخل للرأي فيه.
*****************************************
خلق الله تعالى الخلق لعبادته، والحكيمُ لا يكلف أحدًا بأداء شيء إلا إذا عرَّفه بهذا الشيء، وعلَّمه كيفية أدائه، فاقتضت حكمة الله -سبحانه وتعالى- أن يبعث الرسل إلى الناس كافة؛ ليبلغوهم ما أمرهم به ربهم من توحيده وعبادته، ويعلموهم كيفية العبادات. من هنا جاءت الأحكام الشرعية التي تبين مراد الله تعالى من خلقه على لسان أنبيائه ورسله. إذًا فالحكم الشرعي باختصار هو: مراد الحق من الخلق. ولو سار الإنسان على مراد ربه منه في كل حركة من حركاته في الحياة، فإنه ينال السعادة في الدنيا والآخرة. أما لو أهمل العبد في معرفة مراد ربه، فإنه يصير عبدًا لخبيثَين لا يطيعُهما إلا مِسكينٌ هالك، هما: الشيطان والهوى. من هنا ندرك أهمية معرفة العبد أحكام الله -سبحانه وتعالى-، والتي تتوقف عليها سعادته في الدنيا ونجاته في الآخرة. أنواع الأحكام الشرعية: لما تأمل العلماء في الأحكام الشرعية ، وجدوها على ثلاثة أنواع، هي: الأحكام الشرعية العقائدية أو (العِلْمية)، ثم الوجدانية أو (الأخلاقية)، ثم الأحكام الشرعية العملية. وبيانها فيما يلي: أولا- الأحكام الشرعية العقائدية: هي الأحكام الشرعية التي تتعلق بالاعتقادات القلبية التي يصدّق بها القلب على سبيل اليقين والقطع دون شك أو تردُّد. ولما تأمل العلماء في هذه الأحكام العقائدية وجدوها أيضا على ثلاثة أقسام: إما أن تتعلق بالإلهيات، وإما أن تتعلق بالنبوات، وإما أن تتعلق بالسمعيات. فالإلهيات: ما يجب أن يعتقده المسلم فيما يتصل بذات الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله: من الواجبات والجائزات والمستحيلات، كوجوب اتصافه -سبحانه وتعالى- بكل كمال، واستحالة اتصافه -سبحانه وتعالى- بكل نقص، وجواز خلق زيد من الناس وعدم خلقه. والنبوات: ما يجب أن يعتقده المسلم في حق الأنبياء -عليهم السلام- من الواجبات والجائزات والمستحيلات؛ كوجوب اتصافهم بالصدق والأمانة، واستحالة صدور الكذب والخيانة، وجواز أكلهم وشربهم، وغير ذلك مما لا يقدر البشر على الحياة بدونه. والسمعيات: هي الأمور الغيبية التي لا يستطيع الإنسان أن يدركها إلا عن طريق الخبر الصادق من النبي المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، كأخبار الجنة ونعيمها، والنار وجحيمها، ونعيم القبر وعذابه، وأخبار المحشر والمنشر والصراط والميزان، وغير ذلك من الأمور الغيبية التي يصدِّق بها المسلم بناء على الخبر الصادق. وهذه الأحكام يتكلم عنها علماء العقيدة في كتب علم العقيدة. ثانيًا- الأحكام الشرعية الوجدانية: الإنسان بدن وقلب، والقلب هو محل نظر الله تعالى، والله تعالى يحب إذا نظر إلى قلب عبده أن يرى فيه كل جميل صحيح، وألا يرى فيه أي فاسد قبيح، وقد جاء الشرع ببيان النوعين؛ فبين الأخلاق القلبية الصحيحة التي يُطلب من المسلم أن يتحلى بها، كمحبة الله تعالى ورسله والمؤمنين، والتوكل على الله تعالى، والرحمة بعباده، والتواضع... الخ، وأمر المسلم بالتحلي بها، وهذه هي الفضائل. كما بيَّن الشرعُ الأخلاق القلبية القبيحة التي يُنهَى المسلم عن التخلق بها، كالحسد، والكبر، وغير ذلك، وهذه هي الرذائل. وكل خلق من أخلاق القلب له ثمرة من جنسه تظهر على العبد في تعامله مع غيره، فإن كان الخلق القلبي صحيحًا كانت ثمرته طيبة، وإن كان الخلق القلبي قبيحًا كانت ثمرته خبيثة، فالرحمة تدفع العبد إلى الإحسان ومراعاة مشاعر الناس عند التعامل، واستقرار الكبر في القلب يؤدي بالمتكبر إلى احتقار الآخرين، فيجعل صاحبه مبغوضًا من الناس. ولهذا قدم القرآن تزكية القلب على العلم حين قال: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ﴾. ولكل واحد من هذه الأخلاق أحكام شرعية يتكلم عنها علماء التصوف في كتب التصوف والأخلاق. ثالثا- الأحكام الشرعية العملية: وهي الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين التي تتعلق بكيفيات العبادات، كالصلاة والزكاة، والتي تتعلق بحركة الإنسان في الحياة -على اختلاف صورها النافعة والضارة- من: صناعة وتجارة ونكاح وطلاق وأداء لحقوق الآخرين أو عدوان عليها... إلخ، وما يتعلق بهذه الحركات النافعة والضارة من آثار وحقوق والتزامات. وعند الإطلاق فإن كلمة "الحكم الشرعي" تنصرف على الحكم العملي، دون القلبي أو الاعتقادي. ولمعرفة الأحكام الشرعية العملية أسس الفقهاء علم الفقه، وفصّلوا فيه الحديث عن هذه الأحكام وما يتعلق بها من الأركان والشروط والأوصاف والقواعد والضوابط. هذا، والاتصال قوي بين الأقسام الثلاثة للحكم الشرعي؛ لأن شخصية الإنسان تتشكل من الأقسام الثلاثة، والفصل بينها إنما هو في التعليم والدراسة لتسهيل المعرفة بأنواع الأحكام الشرعية. فما من كتاب من كتب الفقه إلا وهو يتطرق للحديث عن بعض أمور العقائد وبعض الفضائل والرذائل، لكنه يتكلم عنها استطرادًا، تاركًا التفصيل لكتب العقيدة والتصوف. وكلها وبمجموعها يتحقق منها مقصد الشارع الأسمى من الخلق والحياة؛ وهو: التوحيد، والعبادة، والعمران. علاقة الحكم الشرعي بالفتوى: هذا، والفتوى تستهدف أساسًا بيان القسم الثالث من أقسام الحكم الشرعي، وهي الأحكام الشرعية العملية ، غير أن هذا لا يمنع المفتي من أن يتطرق لبيان بعض الأحكام الشرعية العقدية، أو بعض الأحكام الشرعية الوجدانية، إذا ما دعته الحاجة إلى ذلك. ولهذا نرى في كثير من كتب الفتاوى أن مصنف الكتاب يبتدئ بفتاوى العقيدة قبل فتاوى الفقه، وربما تطرق في بعض الفتاوى إلى بيان بعض الأحكام المتعلقة بالأخلاق والتصوف، ومن أمثلة ذلك: ما نراه في كتاب: "فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك"، للشيخ عليش من أئمة المالكية المتأخرين.
**************************
في اللغة والاصطلاح: الشرع في اللغة مصدر: شرع للناس كذا ؛ أي سنَّ لهم كذا. والشريعة في اللغة لها معنيان هما: المذهب والطريقة المستقيمة، ومورد الماء الذي يقصد للشرب. ومثلها في المعنى: شِرعة. وأما الشرع والشريعة في الاصطلاح فهما مرادفان للدين، فيكون معناهما: كل ما شرعه الله لعباده من الأحكام. وسميت هذه الأحكام بالشريعة؛ لاستقامتها من ناحية، وشبهها بمورد الماء من ناحية أخرى؛ من حيث إن فيها حياةً للنفوس والقلوب والعقول والأرواح، كما أن الماء فيه حياة للأبدان(1). الشريعة الواحدة والمتعددة: وعلى هذا فالشريعة والشرع والدين والملة بمعنى واحد، هو: الأحكام التي شرعها الله لعباده، إلا أن هذه الأحكام تسمى "شريعة" باعتبار وضعها واستقامتها وبيانها، وتسمى دينًا باعتبار الخضوع لها وطاعة الله بها، وتسمى "ملة" باعتبار إملائها على الناس(2). يقول الله تعالى : ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾(3). والشريعة تشتمل على العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق، كما جاء في قوله تعالى ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾(4). فالآية تتكلم عن الشريعة الواحدة وهي العقيدة والأخلاق، فهذه لا تختلف بين الأمم. أما المعاملات والعقوبات فتختلف عبر العصور والحضارات، يقول سبحانه وتعالى : ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾(5). لكن العرف - مع هذا- جرى على استعمال الشريعة بمعنى آخر أضيقَ من معنى الدين، فأطلقها على الأحكام العملية ، فتكون بهذا المعنى مرادفة للفقه؛ ولهذا شاع تسمية الكليات التي تدرس علوم الفقه بكليات الشريعة، وقد بدأت هذه التسمية في مصر، ثم سرت منها إلى بلدان العالم الإسلامي.
الشريعة هي المرجعية للمسلمين: وشرعة الإسلام كاملة لا نقص فيها، منزهة لا عيب فيها، شاملة لا يعزب عنها حكم أمر من الأمور، في سياسات الأمم أو اقتصادات الأسواق والمؤسسات، أو علاقات الجماعات والمجتمعات، أو نظام حياة الأفراد، على اختلاف الأقطار والحضارات والأعراق والثقافات. وقد ردّ علماء الإسلام كل تهمة أو مطعن وجهه الغالون إلى شرع الله تعالى، كما نافحوا ضد مطالب تعطيل الشريعة عن مقامها الحاكم لتبقى دومًا كلمة الله تعالى هي العليا، وتتحقق مقاصده من خلقه. فكل حديث عن قسوة الحدود العقابية، أو جور في معاملة المرأة أو غير المسلمين أو الرقيق ، أو زعم بخلل في تصور شئون الدنيا أو الآخرة .. كل هذا وقفت الشريعة أمامه قوية صامدة، بل دحضته. وتقف الشريعة الإسلامية اليوم وما خدمها من تراث علمي وتاريخ إسلامي مجيد، شامخة بين أنظمة التشريع التي يزهو بها الإنسان اليوم، شاهدة بأنها من عند الله، وأن لا إله إلا هو، خلق فسوى وقدّر فهدى، وشرع فأحكم، وحكم فعدل.
الشريعة والفتوى: وفي النهاية، فالشريعة هي المرجعية العليا للمجتمع المسلم والدولة المسلمة، وتطبيق أوامرها مكلف به كل مسلم ومسلمة، قدر وسعه وطاقته. وهي المرجعية الوحيدة للمفتي الشرعي، يستقي منها الأحكام الشرعية ليطبقها على الواقع المعيش، ويرشد الناس إلى ما فيه مرضاة الله تعالى، وفق اجتهاد هذا المفتي. يقول الله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(6). فمن لم يدرس الشريعة ويحسن معرفتها ليس له أن يتصدّر للفتوى أو يتعرض لها مستندًا إلى غيرها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) المدخل لدراسة الشريعة لعبد الكريم زيدان، 38. (2) المرجع السابق، 38 ، نقلا عن تفسير المنار. (3) سورة الجاثية: 18. (4) سورة الشورى: 13. (5) سورة المائدة: 48.
***
العلم في اللغة والاصطلاح " العلم" من علم يعلم، و"العين واللام والميم" أصل صحيح واحد، يدل على أثر بالشيء يتميز به عن غيره. من ذلك العلامة، وهي معروفة.. والعِلم: نقيض الجهل، وقياسه قياس العلم والعلامة، والدليل على أنهما من قياس واحد قراءة بعض القراء: "وإنه لعلم للساعة"، قالوا: يراد به نزول عيسى - عليه السلام -، وإن بذلك يعلم قرب الساعة. وتعلمت الشيء، إذا أخذت علمه. والعرب تقول: تعلم أنه كان كذا، بمعنى اعلم([1]) والعلم في اللغة يطلق على المعرفة والشعور والإتقان واليقين، يقال: علمت الشيء أعلمه علما عرفته، ويقال: ما علمت بخبر قدومه أي: ما شعرت، ويقال: علم الأمر وتعلمه: أتقنه([2]). واصطلاحا: هو حصول صورة الشيء في العقل. ويُحدُّ أيضا بأنه: صفة توجب لِمحلها تمييزًا بين المعاني لا يحتمل النقيض. وقال صاحب الكليات: والمعنى الحقيقي للفظ "العلم" هو (الإدراك)، ولهذا المعنى متعلق وهو (المعلوم)، وله تابع في الحصول يكون وسيلة إليه في البقاء وهو (الملكة)، فأطلق لفظ "العلم" على كل منها؛ إما حقيقة عرفية، أو اصطلاحية، أو مجازًا مشهورًا([3]). ومن ثمّ، تلمس أن العلم يطلق: على الإدراك، وعلى المعلوم، وعلى الملكة الحاصلة. ومن هنا اتخذت العلوم والفنون تسمياتها؛ فقيل: علم النحو، وعلم الفقه، وعلم الفلك؛ بمعنى أنها معلومات خاصة يحصّلها صاحبها بإدراك خاص لباب ما من أبواب المعرفة، فإذا ما تمكَّن من إدراك هذا، وتربى وتدرب عليه حصلت له ملكة (مهارة)، وسُمّيَ "عالِمًا" في تخصص كذا، وقد يطلق عليه في بابنا: فقيه النفس. على أن هناك علاقة ما بين مفهوم "العلم"، وعدة مفاهيم منها: مفهوم الجهل، ومفهوم المعرفة، ومفهوم الثقافة..الخ. أما الجهل فهو –لغةً-: ضد العلم، ويطلق على السفه والخطأ، يقال: جهل على غيره سفه وأخطأ، كما يطلق على الإضاعة ، يقال: جهِل الحقَّ أضاعه ، فهو جاهل وجهول. وتجاهل : أظهر الجهل(4). والجهل اصطلاحا: هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه، فالجهل ضد العلم. والمعرفة لغة: اسم من مصدر عرف، يقال : عرفته عرفة بالكسر وعرفانا : علمته بحاسة من الحواس الخمس(2). واصطلاحًا: إدراك الشيء على ما هو عليه. قال صاحب التعريفات: وهي مسبوقة بجهل بخلاف العلم، ولذلك يسمى الحق تعالى بالعالم دون العارف(3).
موقف الإسلام من العلم: يختلف الحكم التكليفي بتعلم علمٍ ما تبعًا لفائدة العلم والحاجة إليه، فمنه ما تعلمه فرض، ومنه ما هو محرم. والفرض منه ما هو فرض عين ، ومنه ما هو فرض كفاية؛ فمن العلوم التي تعلمها فرض عين تعلم ما يحتاجه الإنسان من علم الفقه والعقيدة. قال ابن عابدين نقلا عن العلامي: مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ تَعَلُّمُهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَبْدُ فِي إقَامَةِ دِينِهِ وَإِخْلَاصِ عَمَلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُعَاشَرَةِ عِبَادِهِ. وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَمُكَلَّفَةٍ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ عِلْمَ الدِّينِ وَالْهِدَايَةِ تَعَلُّمُ عِلْمِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَعِلْمِ الزَّكَاةِ لِمَنْ لَهُ نِصَابٌ، وَالْحَجِّ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَالْبُيُوعِ عَلَى التُّجَّارِ لِيَحْتَرِزُوا عَنْ الشُّبُهَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ. وَكَذَا أَهْلُ الْحِرَفِ، وَكُلُّ مَنْ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ يُفْرَضُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ لِيَمْتَنِعَ عَنْ الْحَرَامِ فِيهِ اهـ (4). هذا، ويعاني مفهوم العلم من حالة من التغبيش حيث يستعمله بعض الباحثين مقتصرًا به على العلم الحسي التجريبي scince، متغافلًا عن أن العلم له جوانب أخرى غير الجانب الحسي التجريبي. فليس كل ما هو موجود يُدركُ بالحواس الظاهرة، وليس كل ما وراء الحس يُنكَر وجوده، فالعالَم الذي نعيشه فيه ما لا يستطيع الحس الوقوف عليه، وما وراء ذلك أكبر. والرؤية الإسلامية للعلم تجمع بين الغيب والشهادة وتضبط مصادرهما وآلات الاستفادة من هذه المصادر. وجماع مصادر المعرفة والعلم في الإسلام هو كتاب الله تعالى المسطور، وكتابه المنظور؛ أي الوحي والوجود. وقد تميزت الحضارة الإسلامية من دون الحضارات والأمم في الوصل الجميل بين المصدريْن ولم تنكر أيا منهما. كما امتازت امتيازًا عظيمًا في تأسيس أدوات التعامل مع الوحي، من النقل والتوثيق، والفهم والتحقيق، والترجيح عند الاختلاف والعمل والتطبيق. وبالمثل جعلت آلة فقه الواقع والوجود الحس والعقل، والعادة والتجربة، فجمعت الحسنيين ونفت السوأتين.
العلم والإفتاء: والعلم - باستعمالاته المختلفة - وثيق الصلة بمفهوم الإفتاء؛ فالإفتاء - وهو: إخبار عن حكم الله تعالى أو هو فن تنزيل الأحكام الشرعية على الواقع المعيش - علم من علوم الشريعة، وله من الخصائص ما يؤهله ليكون علمًا مستقلا عن غيره من العلوم. ومباحث الإفتاء - وإن كانت تدرس ضمن علم أصول الفقه - إلا إن الإفتاء له من المؤهلات والخصائص، وتتوفر له من الدواعي الاجتماعية المعاصرة ما يشدِّد على ضرورة جعله علمًا مستقلا بذاته، له مسائله ومصطلحاته الخاصة، كما أن له علاقات بين أبوابه وكتبه، وله مراجعه، وكل ذلك يجعل الإفتاء مؤهلا لأن يكون علمًا قائمًا بذاته. ولا يمنع هذا أن يستند الإفتاء إلى عدة علوم مردُّها جميعًا إلى أنه ينبغي على المفتي إدراك النص وإدراك الواقع وإتقان تنزيل النصوص على الوقائع، وذلك فن يفتقر إلى ألوان من العلوم ينبغي تحصيلها؛ منها الشرعي كالفقه وأصوله، ومنها المتعلق باللغة كالنحو والبيان والبديع، ومنها علوم كونية تتعلق بواقع الفتوى المسئول عنها، ومنها علوم تتعلق بالإنسان والاجتماع. ولا شك أن تحصيل هذه العلوم يسهم في تنمية إدراك المفتي بالمسألة المستفتى عنها من ناحية، وتنمية الملكة التي تساعد المفتي على الإفتاء من ناحية أخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ([1]) معجم مقاييس اللغة (4 / 109) ([2]) انظر لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير مادة علم . ([3]) انظر الموسوعة الفقهية الكويتية،شرح المواقف للجرجاني 1 / 62 وما بعدها ط . مطبعة السعادة 1325هـ ، والكليات 3/ 204 وما بعدها ، المستصفى 1 / 25 .
****************************
تمهيد: يشتمل علم الأصول على أقسام عدة، لعل أهمها هو قسم الأدلة ([1]) ؛ إذ في هذا القسم من أقسام علم الأصول يتبين للدارس المصادرُ التي يتوجه إليها طالب الحكم الشرعي؛ ليستخلص منها مطلوبه، ويظفر فيها ببغيته.
وهذه الأدلة تنقسم إلى قسمين: 1- الأدلة المتفق عليها. 2- الأدلة المختلف فيها.
أما الأدلة المتفق عليها، فهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. وقد نازع البعض في حجية الإجماع والقياس ([2]) ، لكنَّ رأيهم شاذ غير معتبر؛ لضعف ما استندوا إليه، ومخالفته أصول أهل السنة. وليس كلُّ خلاف جاء معتبرًا إلا خلافٌ له حظ من النظر ([3]) وأما الأدلة المختلف فيها، فهي التي اعتد بها بعض الأصوليين في إظهار الأحكام الشرعية، ولم يعتد بها بعضهم الآخر، ومنها: الاستحسان، وشرع من قبلنا... إلخ.
نخلص من هذا إلى أنَّ من الأدلة المتفق عليها: القياس.
تعريف القياس: القياس في اللغة يطلق على: التقدير، والمساواة. تقول: قست الثوب بالذراع، أي: قدرته به. وتقول: فلان لا يقاس بفلان، أي: لا يساوَى به. وأما في اصطلاح العلماء فقد عرف ابن الحاجب القياس بأنه:
"مساواةُ فرعٍ الأصلَ في علةِ حكمه" ([4]) . ومعنى التعريف: أن يكون لدينا فعل من أفعال المكلفين نص الشارع على حكمه، كتناول الخمر مثلًا، حيث نص الشرع على حرمته، وفعلٌ آخر لم ينص الشارع على حكمه بخصوصه، إلا أنه يشتمل على وصف مشترك بينه وبين الفعل الذي نص الشارع على حكمه، وهذا الوصف المشترك يناسب حكم الفعل المنصوص عليه، فنحكم على الفعل الذي لم ينص عليه بنفس حكم الفعل المنصوص عليه بسبب وجود الوصف المناسب في كلا الفعلين.
ومثال ذلك: تناول "البيرة"، فهو فعل لم ينص الشارع عليه بخصوصه، لكنا لما تأملنا في أوصاف " البيرة" وجدنا أن منها وصف: الإسكار، ووجدنا أن وصف الإسكار موجود في الخمر الذي نص الشارع على حرمته، ووجدنا أن وصف الإسكار هو الوصف الوحيد من أوصاف الخمر الذي يناسب كونه حرامًا ومحظورا؛ لما يترتب على الإسكار من مفاسدَ لا تخفى على عاقل، حتى استحق الخمر أن يسمى: "أم الخبائث"، فجعلنا الإسكار هو العلة في تحريم الخمر؛ لأنه الوصف المناسب الذي يظهر من تعليل حرمة الخمر به حكمةُ الشارع -سبحانه وتعالى- في تحريم الخمر، ولما وجدنا "البيرة" تشترك مع الخمر في علة الإسكار، تعين علينا أن نحكم عليها بنفس حكم الخمر؛ إذ لا فرق مؤثرًا بينهما.
موقع القياس من أدلة الشرع:
القياس هو المصدر الرابع من مصادر التشريع الإسلامي بعد الكتاب، والسنة، والإجماع، فالقرآن أصل الأصول بلا منازع؛ فكان أحق بتقدمه؛ ولذا، كان المصدر الأول من مصادر التشريع.
والسنة شارحته، ومبينة مجمله، غير أنها قد تستقل بتشريع أحكام لم ينصّ عليها فيه؛ لذلك كانت المصدر الثاني.
وأما المصدر الثالث، فهو الإجماع، ومعناه: "اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في عصر على أي أمر كان" ([5]).
وإنما تأخر الإجماع في المرتبة عن الكتاب والسنة؛ لكونه راجعًا إليهما، وكاشفًا عن دليل منهما؛ إذ لا بد للإجماع من مستند يستند إليه المجمعون، وهذا المستند إما نص من الكتاب، أو من السنة. وحتى لو جوزنا أن يكون مستند الإجماع قياسًا من الأقيسة، فلا إشكال؛ لأن القياس إثبات للحكم بمعنى النص، فهو راجع للنص أيضا.([6])
ثم يأتي القياس في المرتبة الرابعة بعد الكتاب والسنة والإجماع.
وقد يقول قائل: إذا كان القياس راجعًا إلى النص -كالإجماع- فلِم قدم الإجماع عليه؟
والجواب: أنَّ الإجماع - وإن كان راجعا إلى النص، كالقياس- إلا أنه تميز بمزايا اقتضت تقدمه على القياس في المرتبة، ومنها:
أن الإجماع - في مجمله - حجة قطعية ([7]) عند الجمهور، بخلاف القياس، فإنه دليل ظني ([8]) في الأعم الأغلب؛ لابتنائه على إعمال النظر([9]) والاجتهاد ([10])، والدليل القطعي أعلى مرتبة من الدليل الظني هذا هو الترتيب بين القياس والإجماع من حيث المرتبة، وأما من حيث التاريخ -أعني أسبقية العمل- فالعمل بالقياس سابق على العمل بالإجماع؛ لأنَّ العمل بالقياس قد جرى في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما الإجماع، فلم ينعقد أصلًا في حياته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن العمل به في حياته لا فائدة منه مع نزول الوحي بأحكام الوقائع. مكانة القياس في التشريع الإسلامي:
لا يفهم من الكلام السابق - في بيان تأخر مرتبة القياس عن الأدلة الثلاثة - أن هذا يقلل من أهمية القياس؛ بل الغرض من البحث السابق بيان موقع القياس بين أدلة الشرع الحنيف، فكان لا بد من ترتيبها بحسب قوتها في الدلالة على الأحكام.
ولما كانت الأدلة الثلاثة -أعني: الكتاب والسنة والإجماع- أقوى في الدلالة، كان لا بد من تأخير القياس عنها، وليس في هذا تقليل لأهميته، بل القياس ذو خطر عظيم ومنصب جليل في هذه الشريعة الغراء؛ إذ هو عكاز الفقيه الذي يتوكأ عليه إذا لم يجد نصًّا في المسألة التي يريد معرفة الحكم الشرعي فيها، ولا إجماع يبين هذا الحكم. ([11])
إذا أعيا الفقيهَ وجودُ نص تعلق لا محالة بالقياس ([12])
ولولا القياس، لبقيت كثير من الوقائع المستجدة - بعد عصر التنزيل - بلا حكم يبين مراد الله فيها.
فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون النصوص الشرعية محصورة من حيث العدد، بينما الوقائع والحوادث - التي تجري في حياة الناس - لا حصر لها، وهي متجددة متكاثرة على تعاقب الأيام والليالي. والمطلوب من فقهاء الإسلام أن يبينوا للناس حكم الله تعالى في كل واقعة من وقائع الحياة، وإن لم يكن حكمها منصوصًا عليه؛ وذلك لأنَّ الشريعة الإسلامية لا تنحصر في الشعائر التعبدية، وإنما هي منهج الله - تعالى - الذي ينظم حياة البشر، بكل جوانبها، ومختلف نواحيها، وما من حركة يتحركها الإنسان في حياته إلا وقد وضع الشارع - سبحانه وتعالى- لها حكمًا يبين مراد الله فيها: من حل، وحرمة، وغيرهما من أحكام الشرع الحنيف، فكان لا بد من أداة يتمكن بها الفقهاء المجتهدون من التصدي لبيان أحكام الوقائع غير المحصورة، من خلال النصوص المحصورة.
ويقع القياس على رأس هذه الأدوات؛ إذ هو الذي يمكن المجتهدين من إثبات حكم النظير المنصوص عليه؛ لنظيره المسكوت عنه، فلا يقف الشرع الحنيف عاجزًا عن بيان مراد الحق من الخلق، مهما اختلفت الأزمنة، وتعددت الأمكنة.
قال القاضي ابن العربي: "وأرشق عبارة تدل على المعنى: ما أشار إليه بعض المتأخرين من العلماء حتى قال: النصوص معدودة، والحوادث غير محدودة، ومن المحال تضمن المعدود ما ليس بمحدود."([13])
وعلى هذا، فتشريع القياس، وأمر المجتهدين باللجوء إليه، إنما هو مظهر من مظاهر حكمة الله - سبحانه وتعالى - المنبثة في الكون المنظور، والشرع المسطور. فبهذا القياس يحفظ الإله العظيم شرعه الحكيم صالحًا لكل زمان ومكان وشخص وحال، فلا يبقى لأحد من العالَمين حجة في عدم اتباع هذا الشرع المبين، ولا يبقى لأدعياء التقدمية ومسايرة العصر مجالٌ للزعم بأنَّ مسايرة العصر تقتضي البعد عن الموروث الذي عفا عليه الزمان، والارتماء في أحضان المناهج البشرية الضالة.
هذا وقد بلغ من أهمية القياس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طبقه تطبيقا عمليًّا حين أجراه بنفسه في بعض الوقائع؛ ليعلمه أصحابه، ويدربهم عليه ([14] )، وهذا - إن دل على شيء - فإنما يدل على معرفته - صلى الله عليه وسلم - بمسيس حاجة الأمة من بعده لهذا الدليل العظيم، وقيامه - صلى الله عليه وسلم - بتحصين مستقبل المنهج الفقهي الإسلامي، وذلك بإمداده بأداةِ تجدد حيويته عبر العصور.
قال إمام الحرمين - رحمه الله تعالى - في بيان أهميته: "وهو - على التحقيق - بحر الفقه ومجموعه، وفيه تنافس النظار" ([15])
وقال رحمه الله تعالى: "القياس مناط الاجتهاد، وأصل الرأي، ومنه يتشعب الفقه وأساليب الشريعة، وهو المفضي إلى الاستقلال بتفاصيل أحكام الوقائع، مع انتفاء الغاية والنهاية؛ فإن نصوص الكتاب والسنة محصورة مقصورة، ومواقع الإجماع معدودة مأثورة، ونحن نعلم قطعًا أن الوقائع - التي يتوقع وقوعها - لا نهاية لها. والرأي المبتوت المقطوع به عندنا، أنه لا تخلو واقعة عن حكم لله تعالى، متلقّى من قاعدة الشرع، والأصل الذي يسترسل على جميع الوقائع: القياس وما يتعلق به من وجوه النظر والاستدلال، فهو - إذً ا- أحق الأصول باعتناء الطالب، ومن عرف مآخذه، وتقاسيمه، وصحيحه، وفاسده، وما يصح من الاعتراضات عليها، وما يفسد منها، وأحاط بمراتبها جلاءً وخفاءً، وعرف مجاريَها ومواقعها، فقد احتوى على مجامع الفقه" ([16])
أركان القياس:
القياس له أركان ([17]) أربعة على المشهور، هي:
الأصل الذي يقاس عليه، كالخمر مثلا، فهو أصلٌ قيس عليه كل مُسكِر من المسكرات التي لم يُنصَّ عليها في الكتاب والسنة. والفرع الذي يقاس على الأصل، ويأخذُ حكمَه: كالنبيذ، الذي قيس على الخمر في الحرمة. وحكم الأصل الذي ينسحب على الفرع في القياس، كالحرمة، فهي الحكم الشرعي لتناول الخمر، وبيعه....إلخ. والعلة المشتركة، الجامعة بين الأصل والفرع، والتي توجب انتقال حكم الأصل للفرع: كالإسكار، فهو الوصف المشترك بين الخمر والنبيذ، وبسبب الاشتراك فيه وكونِه مناسبًا للحرمة - انتقل حكم الخمر إليه، فقلنا: النبيذ حرام، قياسا على الخمر، بجامع اشتراكهما في علة الإسكار.
أهمية العلة في القياس:
تعد العلة أهم الأركان الأربعة للقياس، حتى إنَّ من الأصوليين مَن جعل العلة هي ركن القياس الأوحد، وجعل ما عداها شروطًا للقياس، لا أركانًا. ([18])
ومكمن أهمية العلة: أنها سبب إمكان تعدي مثل الحكم من الأصل إلى الفرع؛ إذ الذي يوجب ذلك التعدي هو اشتراكهما في العلة([19]). ([20])
يضاف إلى هذا أنَّ ترتيب الشارع الحكمَ على العلة هو الذي يظهر به مقصود الشارع من تشريع الأحكام، وهو:أن تكون الشريعة محققة لما تفتقر إليه حياة المكلفين من: جلب المصالح التي عليها قوام عيشهم، ودفع المفاسد التي فيها شقاؤهم وهلاكهم. فيتبين بهذا أنَّ هذه الشريعة معقولة، تقوم أحكامها على أساس من المنطق السديد والحكمة البالغة، التي تَظهر لمن أنعم النظر وأعمل الفكر، ولا يخفى أنَّ هذا يفيد في رد شبهة التعارض بين العقل والنقل.
ويظهر أنَّ من فوائد بناء الأحكام على العلل الشرعية ومطالبة المجتهدين باستخراج هذه العلل: أنَّ هذا يستنفر طاقات العقل المسلم؛ حتى يتفاعل - بكل قواه الفكرية - مع النصوص الشرعية، ولا يخفى أنَّ هذا التفاعل يُعد من وسائل حفظ الشريعة، وتوفير دواعي المجتهدين على حراستها([21])
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) وتظهر هذه الأقسام في تعريف أصول الفقه بأنه: أدلة الفقه إجمالا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد.
ينظر المحصول للرازي (1/80)، المنهاج للبيضاوي مع شرح تيسير الوصول لابن إمام الكاملية (1/275- 276)
([2]) ينظر: المعتمد لأبي الحسين البصري (2/4-23)، اللمع للشيرازي (1/47)، المحصول للرازي (4/35 )، ( 5/21)، تيسير التحرير لأميربادشاه (3/224-227).
([3]) ينظر: حواشي الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج (3/209).
([4]) ينظر: مختصر ابن الحاجب وشرح العضد وحواشيه (3/279).
([5]) ينظر جمع الجوامع بشرح المحلي وحاشية البناني (2/176)
([6]) ينظر: شرح التلويح على التوضيح للتفتازاني (2/333)، شرح المحلي على جمع الجوامع وحاشية العطار (2/229)
([7]) القطع: يطلق على معنيين: أحدهما: نفي الاحتمال أصلا، وعليه، فالقطعي: ما لا يقبل احتمال النقيض. والمعنى الثاني: نفي الاحتمال الناشئ عن دليل. ولإطلاق القطع على المعنيين يستعمل العلماء العلم القطعي في معنيين: أحدهما: ما يقطع الاحتمال، كالمحكم والمتواتر، والثاني: ما يقطع الاحتمال الناشئ عن دليل، كالظاهر والنص والخبر المشهور. فالأول يسمونه علم القطع، والثاني علم الطمأنينة. والدليل القطعي له معنيان: أحدهما: ما يقطع الاحتمال أصلًا، كحكم الكتاب ومتواتر السنة والإجماع، وثانيهما: ما يقطع الاحتمال الناشئ عندليل، كالقياس.
ينظر: توضيح التنقيح لصدر الشريعة وشرح التلويح لسعد الدين التفتازاني (1/ 79)، (1/ 322- 323)، كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (2/ 1333)، كتاب الكليات لأبي البقاء الكفومي (1 / 692)
([8]) الدليل الظني:يعرف معناه من معنى الظن،والظن: تجويز أمرين أحدهما أرجح من الآخر، وعليه، فالدليل الظني: ما ترجح به المعنى الذي دل عليه الدليل، مع كونه يحتمل النقيض احتمالا مرجوحا. أو هو: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري ظني. أو هو: المفيد للظن.
ينظر: شرح المحلي على جمع الجوامع وحاشية العطار (1/167)، كتاب في حدود أصول الفقه للتفتازاني، ورقة 2، كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (2/ 1153 ـ 1155).
([9]) النظر هو: التأمل والتفكر في حال الشيء بقصد العلم أو الظن، والفكر: حركة النفس في المعقولات، أما حركة النفس في المحسوسات فتسمى تخييلا.
ينظر: المحصول للرازي (1/87)، شرح المحلي على جمع الجوامع وحاشية العطار (1/184-185)، كتاب في حدود أصول الفقه للتفتازاني، ورقة 2.
([10]) الاجتهاد: هو: استفراغ المجتهد الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه. ينظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 197).
([11]) ينظر: الرسالة للإمام الشافعي ص 476.
([12]) ينظر: نبراس العقول للشيخ عيسى منون ص6
([13]) المحصول في أصول الفقه لابن العربي ص 125
([14]) ينظر:المحصول للرازي (5/49-50).
([15]) البرهان للجويني (2/517).
([16]) البرهان للجويني (2/743 ).
([17]) الأركان جمع ركن، والركن في اللغة: جانب الشيء الأقوى، ويطلق على جزء الشيء، وعند الأصوليين: قد يراد به نفس الماهية، وقد يراد به جزء الشيء الداخل في ماهيته، وينقسم إلى: أصلي، وزائد، فالأصلي: ما ينتفي الشيء بانتفائه، كالسجود في الصلاة، والزائد هو الجزء الذي إذا انتفى، كان حكم المركب باقيًا بحسب اعتبار الشارع، ومثلوا له بالإيمان: فالتصديق ركن أصلي فيه، والإقرار باللسان ركن زائد بمنزلة اليد، فهي عضو أساسي، ولكن يبقى الجسم بعد قطعها حيًّا، بخلاف الرأس. وسمي الزائد بهذا؛ لأنه لما كان بحيث يبقى الشيء بعد زواله، أشبه الخارج عن الماهية.
ينظر: لسان العرب لابن منظور (13/185)، تيسير التحرير لأمير بادشاه (2/128)، كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (1/872).
([18]) ينظر: توضيح التنقيح لصدر الشريعة وشرح التلويح لسعد الدين التفتازاني (2/151).
([19]) يراجع للتفصيل شرح العضد على ابن الحاجب (3/ 279-282).
([20]) ينظر فيما سبق: تخصيص العلة عند الأصوليين (ص36-38).
([21]) ينظر في كل ما سبق: تخصيص العلة عند الأصوليين وآثاره (ص36-38)
التعريف اللغوي: جاء في لسان العرب: بدَع الشيءَ يَبْدَعُه بَدْعاً وابْتَدَعَه: أَنشأَه وبدأَه. والبِدْعةُ: الحَدَث وَمَا ابْتُدِعَ مِنَ الدِّينِ بَعْدَ الإِكمال. والبِدْعةُ كلُّ مُحْدَثةٍ. المبتدع الذي يأتي أمرًا على شَبَهٍ لم يكن ابتدأَه إِيَّاه، وَفُلَانٌ بِدْعٌ فِي هَذَا الأَمر أَي أَوّلٌ لَمْ يَسْبِقْه أَحد، بل ابتدأه هو. وأبدع وابتدع وتبدّع: أتى ببدعة،وبدَّعه: نسبه إلى البدعة، وأبدعت الشيء: اخترعتُه لا على مثال([1]). اتجاهات العلماء في المراد بالبدعة: للعلماء في فهم كلمة "البدعة" الواردة في الشرع وكتبهم مذهبان رئيسان: الاتجاه الأول: استعمل أصحاب هذا الاتجاه مفهوم البدعة استعمالا موسعًا على كل حادث لم يوجد في الكتاب والسُّنة، سواء أكان في العبادات أم العادات، وسواء أكان مذمومًا أم غير مذموم. ومن القائلين بهذا الإمام الشافعي، ومن أتباعه العز بن عبد السلام، والنووي، وأبو شامة. ومن المالكية: القرافي، والزرقاني. ومن الحنفية: ابن عابدين. ومن الحنابلة: ابن الجوزي. ومن الظاهرية: ابن حزم([2]). ويتمثل هذا الاتجاه في تعريف العز بن عبد السلام للبدعة وهو: أنها فعل ما لم يُعهد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي منقسمة إلى بدعة واجبة، وبدعة محرَّمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة([3]). أدلة هذا القول: وعلى هذا التقسيم حملوا ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مرفوعًا قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "من سنَّ سُنَّةً حسنةً، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سُنَّةً سيئةً، فعليه وِزرها وَوِزر من عمل بها إلى يوم القيامة" ([4]). واستدلوا أيضًا بحديثٍ عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهطُ، فقال عمر: «إني أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد، لكان أمثل» ثم عزم، فجمعهم على أُبَيِّ بن كعب، ثم خرجتُ معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: «نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون»، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله([5]). الاتجاه الثاني: اتجه فريق من العلماء إلى ذم البدعة، وقرروا أن البدعة كلها ضلالة، سواء في العادات أو العبادات. ومن القائلين بهذا الإمام مالك والشاطبي والطرطوشي. ومن الحنفية: الإمام الشُّمُنِّي، والعيني([6]). وقد عرف هذا الفريق "البدعة" بقوله: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية([7]). وبهذا التعريف تدخل العاداتُ في البدع إذا ضاهت الطريقة الشرعية، كالناذر للصيام قائمًا لا يقعد متعرضًا للشمس لا يستظل، والاقتصار في المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة. أدلة أصحاب هذا القول: استدلوا بحديث العرباض بن سارية: "وَعَظَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغةً، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودِّعٍ فما تعهد إلينا. فقال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمر، وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بِسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور. فإن كلَّ محدَثةٍ بدعةٌ، وكلّ بدعةٍ ضلالة"([8]). ومن المصطلحات المقاربة: المصلحة المرسلة: المصلحة - لغةً - كالمنفعة وزنًا ومعنًى، فهي مصدر بمعنى الصلاح، أو هي اسم للواحد من المصالح. والمصلحة المرسلة اصطلاحًا هي: المحافظة على مقصود الشرع المنحصر في الضروريات الخمس، كما قال الإمام الغزالي رحمه الله، أو هي اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معيّن كما عند الشاطبي، أو هي أن يرى المجتهد أن هذا الفعل فيه منفعة راجحة وليس في الشرع ما ينفيه كما عند ابن تيمية، أو هي أن يناط الأمر باعتبارٍ مناسبٍ لم يدل الشرع على اعتباره ولا إلغائه إلا أنه ملائم لتصرفات الشرع([9]). حكم البدعة التكليفي: مما تقدم يتبين أن لفظ البدعة يُفهم عند العلماء بمعنيين؛ ومن ثم يُحكم عليه بحكمين: 1. فذهب الإمام الشافعي والعز بن عبد السلام وأبو شامة، والنووي من الشافعية، والإمام القرافي والزرقاني من المالكية، وابن الجوزي من الحنابلة، وابن عابدين من الحنيفة إلى تقسيم البدعة تبعًا للأحكام الخمسة إلى: واجبة أو محرمة أو مندوبة أو مكروهة أو مباحة([10]). 2. وأما أصحاب القول الثاني فإنهم لا يرون هذا التقسيم ولكنهم يرون البدعة مذمومة على كل حال. أمثلة للبدعة بأقسامها المتعددة: • البدعة الواجبة: كالاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله، وذلك واجب؛ لأنه لابد منه لحفظ الشريعة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. • والبدعة المحرمة من أمثلتها: مذهب القدرية، والجبرية، والمرجئة، والخوارج. • والبدعة المندوبة: مثل إحداث المدارس، وبناء القناطر، ومنها صلاة التراويح جماعة في المسجد بإمام واحد. • والبدعة المكروهة: مثل تزويق المصاحف. • والبدعة المباحة: مثل المصافحة عقب الصلوات، ومنها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس([11]). البدعة في العادات: وذهب قوم إلى أن الابتداع في العادات التي ليس لها تعلق بالعبادات جائز؛ لأنه لو جازت المؤاخذة في الابتداع في العادات لوجب أن تُعدَّ كل العادات التي حدثت بعد الصدر الأول - من المآكل والمشارب والملابس والمسائل النازلة - بدعًا مكروهاتٍ، والتالي باطل؛ لأنه لم يقل أحد بأن تلك العادات التي برزت بعد الصدر الأول مخالفة لهم ؛ ولأن العادات من الأشياء التي تدور مع الزمان والمكان. علاقة مفهوم البدعة بمنظومة الإفتاء: يُعدُّ مفهوم البدعة مفهومًا محوريًّا شديد الأهمية والخطورة في العملية الإفتائية؛ ذلك أنه يتداخل في كثير من قضايا الفقه والفتوى وتتنوع وتتعدد وتتشابك تطبيقاته في المسائل الفقهية؛ ومن ثم ينبني على تبني أحد الاتجاهين السابقين للعلماء في تحديد معنى البدعة وتقسيمها اختلاف كبير في المسائل الفرعية الفقهية. وقد تعددت تعريفات البدعة وتنوعت؛ لاختلاف أنظار العلماء في مفهومها ومدلولها. فمنهم من وسع مدلولها، حتى أطلقها على كل مستحدث من الأشياء، ومنهم من ضيق ما تدل عليه، فتقلص بذلك ما يندرج تحتها من الأحكام بناء على ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ([1]) لسان العرب 8/6 . ([2]) الموسوعة الفقهية 8/21. ([3]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/204. ([4]) صحيح مسلم 4/2059. ([5]) صحيح البخاري حديث رقم 2010. ([6]) الموسوعة الفقهية 8/23. ([7]) السابق. ([8]) سنن أبي داود 4/201، حديث رقم 4607. ([9]) الموسوعة الفقهية الكويتية 8/ 25. ([10]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/205. ([11]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/205.
• السبب في اللغة: الحبل، كما في قوله تعالى: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾ [الحج:15] ثم استُعْمِلَ لكلِّ شيء يُتَوَصَّلُ به إلى غيره، وفي الاصطلاح عند جمهور الفقهاء هو الأمر الظاهر المضبوط الذي جعله الشارع أمارة لوجود الحكم([1])، كدخول شهر رمضان، فإنه سبب لوجوب الصيام، والأحكام التكليفية تكون من الله تعالى، فالسبب لا يكون سببا إلا بجعل الشارع له سببًا. • وينقسم السبب إلى قسمين([2]): أحدهما ما كان من فعل المكلف، والآخر ما ليس من فعله، أما ما كان من فعل المكلف فكالسفر فإنه سبب لرخصة الإفطار في الصوم والقصر في الصلاة، وعقد الزواج سبب في حل المعاشرة، والذي ليس من فعل المكلف فكدخول وقت الصلاة، فإنه سبب في وجوب الصلاة، والاضطرار سبب لإباحة الميتة، والموت سبب للميراث، وهكذا..
• والسبب الذي يكون من فعل المكلف ينقسم إلى أقسام:
1- ما يكون مأمورًا به: ويكون المترتب عليه حينئذ حقًّا من الحقوق، 2- وما يكون مأذونا فيه ومباحا فعله: فهو كالقسم الأول يترتب عليه حق من الحقوق، كالزواج فإنه سبب للتوارث بين الزوجين وحل العشرة بينهما، 3- وما يكون منهيًّا عنه: فإذا كان السبب منهيًّا عنه كان المترتب عليه عقوبة، فالسرقة سبب يترتب عليه توقيع حد السرقة، وكذا الزنا سبب يترتب عليه توقيع حد الزنا، والرشوة والغش سببان يترتب عليهما عقوبة التعزير.
والأسباب تترتب عليها مسبَّباتها، ولو لم يُرِد الفاعل هذه المسبَّبات التي تترتب على الأسباب، سواء كانت أحكامًا تكليفية أو إثبات أو إزالة ملك؛ لأن الأسباب ليست مؤثرة بذاتها، ولأن المسببات لا تتخلف عن أسبابها شرعًا، سواء قصد من باشر السبب ترتب المسبب عليه أم لم يقصده، فالموت سبب للميراث ولو لم يُرِدْه المتوفَّى، ولو رَدَّه الوارث، ومن سافر ثبتت له إباحة الفطر في رمضان، ومن تزوج وجب عليه المهر والنفقة، ومن طلق زوجته ثبت له حق مراجعتها، ولو قال: لا رجعة لي؛ لأن المسبب بترتيب الشارع لا من الإنسان.
الفرق بين السبب والعلة:
بعض علماء الأصول يفرق بين (السبب) و(العلة) ويرون أن السبب هو ما يطلق على ما لا يكون بينه وبين الحكم مناسبة، وعلى ذلك يكون دخول الوقت (سببًا) لوجوب الصلاة، بينما يكون الإسكار (علة) في تحريم الخمر؛ لعدم وجود مناسبة بين الوقت والصلاة، بينما توجد مناسبة بين الإسكار والخمر، في حين لا يفرق آخرون بين السبب والعلة، ويعتبرون أن العلة داخلة في معنى السبب، ، ويرون تقسيم السبب إلى قسمين: سبب مناسب للحكم (وهو ما يقابل العلة)، وسبب غير مناسب للحكم، وعليه فالخلاف في هذا الأمر لفظي وليس معنويًّا([3]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - محمد أبو زهرة: أصول الفقه، ص55، ط دار الفكر العربي.
[2] - المرجع السابق: ص 56 وما بعدها، بتصرف واختصار، وانظر.. وهبة الزحيلي: الوجيز في أصول الفقه، ص 135 وما بعدها، ط دار الفكر.
[3] - أبو زهرة: مرجع سابق ص 59 بتصرف.
********************************
الصحة: عند جمهور الفقهاء عبارة عما وافق الشرع، سواء وجب القضاء أو لم يجب، ويشمل العبادات والعقود، وذهب الحنفية إلى التفرقة بين العبادات والمعاملات فقالوا إن الصحة في العبادات: اندفاع وجوب القضاء، بمعنى عدم وجوب قضاء العبادة مرة أخرى، فيجب عندهم أن تتم العبادة مستوفية الأركان والشروط حتى يحكم بصحتها، فمن صلى وهو يظن أنه متطهر ثم تبيَّن أنه قد انتقض وضوؤه فصلاته صحيحة عند الجمهور، ويجب عليه قضاء الصلاة بأمر متجدد، أما الحنفية فيرون أن الصلاة غير صحيحة من الأساس لعدم اندفاع القضاء.
وذهب الحنفية إلى أن الصحة في المعاملات هي: ترتب أثر المعاملات، وهو ما شرعت من أجله، كحل الانتفاع في عقد البيع، أو الاستمتاع في عقد النكاح.
ويتعلق بالصحة أحكام، منها: عوارض الأهلية، فالأهلية تتعلق بقدرتين: قدرة فهم الخطاب وهي بالعقل، وقدرة العمل به وهي بالبدن، فأي خلل يعتري العقل، أو البدن يصير عارضًا من العوارض التي قد تحول دون أهلية العبد للقيام بتصرفات تعد من وجهة نظر الشرع صحيحة، فالمرض مثلا له أثر في نقص التكليف الشرعي، لأن المريض له رخص كثيرة شرعت للتخفيف عنه، كما يكون المرض في بعض الأحوال سببًا للحجر على المريض مرض الموت.
فإذا كان الإنسان صحيح العقل والبدن توجَّه إليه التكليف كاملا.
وذكر الفقهاء كذلك جملة من الأحكام يشترط فيها صحة البدن، مثل اشتراط صحة بدن الإمام في الصلاة إذا كان يؤم مصلين أصحاء، فيجب أن يكون سليمًا من الأعذار، كسلس البول وانفلات الريح، ويشترط لوجوب الجهاد السلامة من الضرر، فلا يجب الجهاد على العاجز غير المستطيع، وكذلك الحج فلا يجب الحج بالنفس على من به مرض وعجز يمنعه من أداء هذه العبادة التي تحتاج إلى جهد كبير([1]).
الفساد: هو في اللغة نقيض الصلاح، وقد عرفه جمهور الفقهاء بأنه مخالفةُ الفعلِ الشرعَ بحيث لا تترتب عليه الآثار ولا يسقط القضاء في العبادات، في حين عرفه الحنفية بأنه كون الشيء مشروعًا بأصله دون وصفه، كالنكاح مثلا عقد شرع بأصله، وله أوصاف نص عليها الشارع كالمهر والولى والشهود، فإذا عقد النكاح دون تسمية المهر، فهنا مخالفة للوصف الشرعي، يتوجب عند الحنفية تصحيحه بفرض تسمية للمهر، أو تقدير مهر المثل.. وهكذا.
والعبد الذي يرتكب عن عمد تصرفًا مشوبًا بالفساد سواء في العبادات أو المعاملات فإنه يقع عليه الإثم والعقاب من الله، كمن صلى دون طهارة أو تزوج امرأة في فترة عِدَّتها، وحتى الأحناف الذين يرون أن العقود الفاسدة قابلة للتصحيح، فإن الإقدام عليها عندهم حرام، ويجب فسخها حقا لله تعالى.
والعبادة تفسد بأمور، منها:
1- ترك شرط من شروط صحة العبادة، كترك ستر العورة أو الطهارة أو استقبال القبلة في الصلاة.
2- ترك ركن من أركان العبادة، كترك القيام أو الركوع أو السجود في الصلاة دون عذر.
3- ارتكاب فعل من الأفعال التي تفسد العبادة، كالأكل والشرب في الصلاة.
4- رفض نية العبادة في أثناء القيام بها بأن قطع النية أو عزم على قطعها، على خلاف وتفصيل بين المذاهب.
5- مخالفة النهي الوارد عن الفعل أو على الوصف الملازم له كالنهي عن صوم يوم العيد.
أثر فساد العبادة: إذا فسدت العبادة فإنه يترتب على هذا الفساد عدة أمور، منها:
1- بقاء انشغال الذمة بالعبادة إلى أن تؤدَّى إن كانت العبادة ليس لها وقت محدد كالزكاة، أو تقضى إن كان وقتها لا يتسع لمثلها كالصيام في رمضان أو تعاد إن كان وقتها يتسع لغيرها معها كالصلاة ما دامت الإعادة في الوقت، فإن خرج الوقت كانت قضاءً.
2- العقوبة الدنيوية في بعض العبادات كالكفارة على من تعمد الإفطار في نهار رمضان، على خلاف وتفصيل بين الفقهاء.
3- عدم المضي في الفاسد بمعنى عدم الاستمرار في أداء عبادة فاسدة إلا في الصيام والحج، فيجب الاستمرار في أدائهما فاسدين والقضاء فيما بعد.
4- قد يترتب على فساد العبادة فساد عبادة أخرى، كالوضوء يفسد بفساد الصلاة بالقهقهة عند الحنفية.
5- حق استرداد الزكاة إذا أعطيت لغير مستحقها في بعض الأحوال([2]).
البطلان: يختلف تعريف البطلان في العبادات عن المعاملات، ففي العبادات: عدم اعتبار العبادة حتى كأنها لم تكن، كما لو صلى بغير وضوء.
ويعرفه الحنفية في المعاملات بأنه: المعاملة التي تقع على وجه غير مشروع بأصله ولا بوصفه، وينشأ عن البطلان تخلف الأحكام كلها عن التصرفات، وخروجها عن كونها أسبابًا مفيدة لتلك الأحكام التي تترتب عليها، فبطلان المعاملة لا يوصل إلى المقصود الدنيوي أصلا، لأن آثارها لا تترتب عليها، فتُعَدُّ كأن لم تكن.
وعند غير الحنفية فإن تعريف البطلان هو تعريف الفساد؛ لأنهم لا يفرقون بين الفساد والبطلان([3]).
الفرق بين الفساد والبطلان عند الحنفية:
تنقسم العبادات إلى صحيحة وغير صحيحة، ولا فرق في غير الصحيح منها بين الفاسد والباطل، إلا في بعض المسائل كما سيأتي لاحقا، فالحنفية يتفقون مع الجمهور في عدم التفرقة بين الفاسد والباطل في العبادات، أما الخلاف بينهم فيظهر في المعاملات.
فقد اتفق الفقهاء على أن الصحيح من العقود ما أقره الشرع ورتب آثاره بأن كانت أركانه وأوصافه سليمة، أما العقد غير الصحيح فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم التفرقة فيه بين الفاسد والباطل، في حين ذهب الحنفية إلى إجراء هذه التفرقة، فإذا حدث خلل في ركن من أركان العقد صار العقد باطلا، ولا يترتب عليه آثاره، من تملك أو انتفاع أو غير ذلك من آثار، أما إذا حدث الخلل في شرط من الشروط المتعلقة بالحكم أي في وصف من الأوصاف، فإنه تترتب عليه بعض الآثار وليس كل الآثار، وهذا هو العقد الفاسد، أما العقد الباطل فإنه لا يكون له وجود.
فالعقد الباطل صورته أن يكون محل العقد غير مباح كالخمر والخنزير، أو يكون محل العقد معدومًا أو غير مقدور التسليم، كبيع الجنين في بطن أمه؛ لأنه في حكم المعدوم.
وأما العقد الفاسد فهو كالبيع بثمن غير معلوم وكعدم تحديد الأجل في العقود المؤقتة، وإذا رفع سبب الفساد في المجلس بأن عين الثمن أو حددت المدة ترتبت على العقد كل آثاره عند الحنفية.
ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أنه على الرغم من عدم التفرقة بين الفاسد والباطل عند جمهور الفقهاء كقاعدة عامة، إلا أنها ترِد عليها استثناءات في مسائل متفرقة، فالمالكية فرقوا بين الفاسد والباطل في عقود القراض والمساقاة، والشافعية فرقوا بين الفاسد والباطل في الحج والخلع والكتابة والعارية، والحنابلة فرقوا بين الفاسد والباطل في الحج والنكاح والوكالة والإجارة والشركة والمضاربة وغير ذلك.
أهمية التمييز بين هذه المصطلحات للمفتي:
• ومن الأهمية بمكان تنبه المفتي إلى هذه التفرقة الدقيقة بين الفساد والبطلان؛ لأن ذلك قد يساعده في تصحيح عقود المستفتين إن تبين له أنها فاسدة فقط وليست باطلة، ويبين لهم كيف يمكن جبرها وإصلاح الخلل الواقع بها، دون هدم كامل المعاملة، بما يصلح معاش الناس، ويبين لهم إن كان التعاقد باطلا أنه لا سبيل إلى إصلاحه وأن كل الآثار المترتبة عليه كأن لم تكن، حتى لا يتمادى العوام في معاملات باطلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - الموسوعة الفقهية الكويتية: مصطلح (صحة)، بتصرف، وانظر.. أصول الفقه للشيخ أبو زهرة: ص 64 وما بعدها، ط دار الفكر العربي، وأصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف: ص 125 وما بعدها، ط مكتبة الدعوة الإسلامية، وأصول الفقه للشيخ محمد الخضري: ص 74، 75، ط المكتبة التجارية الكبرى.
[2] - الموسوعة الفقهية الكويتية، مصطلح (فساد)، بتصرف واختصار.
[3] - الموسوعة الفقهية الكويتية، مصطلح (بطلان).
********************************************
البدعة في اللغة: من بدع الشيء يبدعه بدعا، وابتدعه: إذا أنشأه وبدأه، والبدع: الشيء الذي يكون أولا، ومنه قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 9]: أي لست بأول رسول بعث إلى الناس، بل قد جاءت الرسل من قبل، فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني، وفي لسان العرب: المبتدع الذي يأتي أمرًا على شبه لم يكن، بل ابتدأه هو، وأبدع وابتدع وتبدع: أتى ببدعة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ [الحديد: 27]، وبدعه: نسبه إلى البدعة، والبديع: المحدث العجيب، وأبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال، والبديع من أسماء الله تعالى، ومعناه: المبدع؛ لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها. [لسان العرب: 8/ 6، مادة « بدع»، ط. دار صادر].
والبدعة في الاصطلاح: إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة [تهذيب الأسماء واللغات للنووي: 1/ 22، ط. المنيرية]. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: «البدعة: فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم». [قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 2/ 172، ط. الاستقامة]. وبذلك التعريف تدخل العادات والمعاملات تحت تعريف البدعة، يقول الشيخ عز الدين بن عبد السلام -مقسما البدعة إلى خمسة أقسام لتتناول العادات والمعاملات والعبادات وسائر ألوان الحياة من المباحات وغيرها-: وهي منقسمة إلى واجبة، ومحرمة، ومندوبة، ومكروهة، ومباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة، وللبدع الواجبة أمثلة، أحدها: الاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- وذلك واجب؛ لأن حفظ الشريعة واجب ولا يتأتى حفظها إلا بمعرفة ذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وللبدع المحرمة أمثلة، منها: مذهب القدرية، ومنها مذهب الجبرية، ومنها مذهب المرجئة، ومنها مذهب المجسمة، والرد على هؤلاء من البدع الواجبة، وللبدع المندوبة أمثلة، منها: إحداث الربط والمدارس، وبناء القناطر، ومنها كل إحسان لم يعهد في العصر الأول، ومنها: صلاة التراويح، ومنها الكلام في دقائق التصوف، ومنها الكلام في الجدل في جمع المحافل للاستدلال على المسائل إذا قصد بذلك وجه الله سبحانه، وللبدع المكروهة أمثلة، منها: زخرفة المساجد، ومنها تزويق المصاحف، وأما تلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربي فالأصح أنه من البدع المحرمة، وللبدع المباحة أمثلة، منها: المصافحة عقيب الصبح والعصر، ومنها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن، ولبس الطيالسة، وتوسيع الأكمام، وقد يختلف في بعض ذلك، فيجعله بعض العلماء من البدع المكروهة، ويجعله آخرون من السنن المفعولة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما بعده، وذلك كالاستعاذة في الصلاة والبسملة» [قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 4/ 202- 205، ط. عالم الكتب]، وتبعه القرافي في هذا التقسيم في كتابه «الفروق» في الفرق الثاني والخمسين والمائتين. ويقول ابن عابدين في حاشيته مقسمًا البدعة إلى أقسام خمسة تتناول العبادات والعادات: «البدعة خمسة أقسام: محرمة، وواجبة، كنصب الأدلة للرد على أهل الفرق الضالة، وتعلم النحو المفهم للكتاب والسنة، ومندوبة كإحداث نحو رباط ومدرسة، وكل إحسان لم يكن في الصدر الأول، ومكروهة كزخرفة المساجد، ومباحة كالتوسع بلذيذ المآكل والمشارب والثياب» [رد المحتار: 1/ 560، ط. دار الفكر]. وقسم المناوي في «فيض القدير» البدعة إلى مذمومة وحسنة، فقال: «والبدعة كما قال في القاموس: الحديث في الدين بعد الإكمال، وما استحدث بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأهواء. وقال غيره: اسم من ابتدع الشيء: اخترعه وأحدثه، ثم غلبت على ما لم يشهد الشرع لحسنه، وعلى ما خالف أصول أهل السنة والجماعة في العقائد، وذلك هو المراد بالحديث؛ لإيراده في حيز التحذير منها والذم لها والتوبيخ عليها، وأما ما يحمده العقل ولا تأباه أصول الشريعة فحسن» [فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي: 1/ 72، ط المكتبة التجارية الكبرى]. كما قسم الإمام الشافعي البدعة إلى قسمين عامين تدخل فيهما العبادات والعادات، كما روى البيهقي فقال: «قال الشافعي -رضي الله عنه-: المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا، فهذه بدعة الضلالة. والثانية: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر -رضي الله عنه- في قيام شهر رمضان: «نعمت البدعة هذه» يعني أنها محدثة لم تكن، وإن كانت فليس فيها رد لما مضى» [المدخل إلى السنن الكبرى: 1/ 206، ط. دار الخلفاء للكتاب الإسلامي]. وقال الطرطوشي المالكي: «أصل كلمة البدعة: من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق، ولا مثال احْتُذِيَ، ولا ألف مثله، ومنه قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: 117]، وقوله: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُل﴾ [ الأحقاف: 9]؛ أي: لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض، وهذا الاسم يدخل فيما تخترعه القلوب، وفيما تنطق به الألسنة، وفيما تفعله الجوارح» [الحوادث والبدع للطرطوشي ص39: ط. دار ابن الجوزي]. وقال ابن الحاج المالكي في «المدخل»: «والبدع قد قسمها العلماء على خمسة أقسام: بدعة واجبة، وهي مثل كتب العلم؛ فإنه لم يكن من فعل من مضى؛ لأن العلم كان في صدورهم، وكشَكل المصحف ونقطه، والبدعة الثانية: بدعة مستحبة، قالوا: مثل بناء القناطر، وتنظيف الطرق لسلوكها، وتهييء الجسور، وبناء المدارس والربط وما أشبه ذلك، والبدعة الثالثة: وهي المباحة كالمنخل، والأشنان، وما شاكلهما، والبدعة الرابعة: وهي المكروهة مثل زخرفة المساجد، والبدعة الخامسة: وهي المحرمة وهي أكثر من أن تنحصر». [المدخل لابن الحاج 2/ 257، ط. مكتبة دار التراث بتصرف]. والدليل أن البدعة تنقسم إلى أقسام لتتناول العبادات والعادات: حديث عمر بن الخطاب الذي أخرجه البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: «خرجت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه! والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون». يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله، فدلَّ هذا الحديث على أن البدعة تنقسم إلى ما هو حسن وإلى ما هو مذموم، ولو لم تكن مقسمة لكانت ضلالة؛ لأن الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة))، عمم أن كل بدعة ضلالة، فجاء حديث عمر ليخصص هذا العموم ويبين أن كل بدعة لم يشهد لها أصول الشرع فهي ضلالة، ويؤكد هذا التخصيص للحديث ما أخرجه مسلم عن جرير البجلي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»، ويؤكد هذا أيضًا ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحكم بن الأعرج قال: سألت محمدا عن صلاة الضحى -أي صلاتها جماعة- وهو مسند ظهره إلى حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: بدعة ونعمت البدعة. قال النفراوي المالكي: «والبدعة: هي الأمر الذي لم يقع في زمنه صلى الله عليه وسلم سواء دل الشرع على حرمته أو كراهته أو وجوبه أو ندبه أو إباحته، وإليه ذهب من قال: إن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة كابن عبد السلام والقرافي وغيرهما، وهذا أقرب لمعناها لغة من أنها ما فعل من غير سبق مثال». [الفواكه الدواني على شرح رسالة القيرواني: 1/ 109، ط. دار الفكر]. وبناءً على ما سبق: فإن البدعة تدخل في العبادات والعادات والمعاملات، وهي تنقسم إلى الأحكام الشرعية الخمسة. والله تعالى أعلم
***********************************
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد، فالقياس في اللغة من مادة: قَوَسَ، التي تدل على تقدير شيء بشيء، والمقدار: مِقْيَاسٌ. (ينظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/ 40، ط. دار الفكر).
واصطلاحا قيل في تعريفه إنه: مساواة فرعٍ لأصلٍ في علة الحكم، أو زيادته عليه في المعنى المعتبر في الحكم. وقيل: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما؛ بجامعِ حُكْمٍ أو صفة أو نفيهما. وقد اختلف علماء الأصول في تعريف القياس، حتى قال إمام الحرمين: يتعذر الحد الحقيقي في القياس؛ لاشتماله على حقائق مختلفة، كالحكم، والعلة، والفرع والجامع. (البحر المحيط للزركشي 5/ 7، ط. دار الكتبي، ونهاية السول للإسنوي 3/ 3، ط. عالم الكتب). وقد برزت الحاجة للقياس حينما كثرت النوازل والمستجدات التي لم يأت في بيان حكمها نص بخصوصها، فالنازلة في الغالب الأعم يندر أن نجد فيها نصًّا واضحًا، ولهذا كان لا بد من إيجاد حكم لها من غير طريق النصوص المباشرة، وذلك بواسطة القياس الذي هو أصل من أدلة الأحكام الأربعة المتفق عليها بين فقهاء المذاهب الأربعة المتبوعة وجمهور علماء الإسلام، والتي هي: «الكتاب والسنة والإجماع والقياس». ولا خلاف بين العلماء في أن القياس حجة في الأمور الدنيوية كالأغذية والأدوية. أما القياس في الأحكام الشرعية عند عدم النص والإجماع فقد ذهب جمهور الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أن القياس الشرعي أصل من أصول التشريع، يستدل به على الأحكام التي لم يَرِدْ بها السمع، ونقل عن أحمد قوله: «لا يستغني أحد عن القياس». (انظر: البحر المحيط 5/ 16، والتحصيل من المحصول لسراج الدين الأرموي 2/ 159، ط. مؤسسة الرسالة. وإرشاد الفحول ص: 185، ط. مصطفى الحلبي). وأركان القياس أربعة، وهي: الأصل والفرع والحكم والعلة، فالأصل: هو محل الحكم المشبه به، أو هو المقاس عليه لورود النصوص الشرعية به. والفرع: هو المشبَّه، أو المسألة المطلوب معرفة حكمها وليس فيها نص شرعي ظاهر. والحكم: هو ما ثبت بالشرع في الأصل كتحريم الخمر. والعلة: وهي الوصف الجامع بين الأصل والفرع (إرشاد الفحول للشوكاني ص: 204، والبحر المحيط 5/ 83). ومثال ذلك تحريم كل ما يسكر أو يُذْهِب العقل -كالبيرة مثلا- قياسًا على الخمر، فالأصل هنا هو الخمر وقد ورد حكمها في نصوص الشريعة قرآنا وسنة، والفرع البيرة ولم يَرِدْ فيها بخصوصها نص صريح، والحكم هو الحرمة قياسا على حرمة الخمر الواردة في نصوص الشرع، والعلة هي الإسكار والضرر الذي حرمت لأجله الخمر والذي هو حاصل أيضا في البيرة، فهذا مثال يوضح مدى الحاجة للقياس لضرورة معرفة الحكم الشرعي في كل ما يستجد من نوازل ووقائع، إذ إنه لا يمكن أن تخلو واقعة من حكم لله تعالى فيها، قال سبحانه: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾[النحل: 89]. يقول إمام الحرمين في كتابه «غياث الأمم» (ص: 310، ط. دار الدعوة): «والمعتقد أنه لا يفرض وقوع واقعة مع بقاء الشريعة بين ظهراني حملتها إلا وفي الشريعة مستمسك بحكم الله فيها» اهـ. فمرجع القياس التفقه والمعرفة العميقة لأسرار الشريعة ومقاصدها وعلل أحكامها، ولهذا فالاستدلال بالقياس في أحكام الشريعة لا يحسنه كل أحد، بل هو من وظيفة العلماء الذين بلغوا مرتبة الاجتهاد المطلق، كالأئمة المتبوعين أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد عليهم رضوان الله تعالى. ولندرة المجتهد المطلق مع مرور الأزمان ظهرت الحاجة إلى ما يسمى بالتخريج على مذهب المجتهد، أو الاجتهاد في مذهب إمام بعينه، فهو يشبه القياس من حيث هو إلحاق فرع غير منصوص عليه بأصل منصوص، ويختلف عن القياس بأن الأصل الملحق به هنا هو نص الإمام المجتهد وقواعده لا نصوص الكتاب والسنة كما في القياس؛ إذ المخرِّج لا يبلغ مرتبة الاجتهاد المطلق ليتمكن من الاستقلال بإلحاق الفروع المستحدثة بالأصول المنصوص عليها في الشريعة، وإنما يتوصل لأحكام النوازل من خلال القواعد والأصول التي أسسها أئمة الاجتهاد لفهم أحكام الشريعة وعللها ومقاصدها. وقد ذكر ابن بدران من الحنابلة في كتابه «المدخل إلى مذهب الإمام أحمد» (ص: 35، 140، ط. مؤسسة الرسالة): «أن التعبير بكلمة «التخريج» يقع في كلام الفقهاء والأصوليين، وأنه نوع من الاستنباط معناه: استخراج الحكم بالتفريع على نص الإمام المجتهد في صورة مشابهة، أو على أصول إمام المذهب؛ كالقواعد الكلية التي يأخذ بها أو الشرع أو العقل من غير أن يكون الحكم منصوصًا عليه من الإمام. ومن أمثلته: التفريع على قاعدة عدم التكليف بما لا يطاق». ومما سبق يتبين أن هناك فارقًا بين القياس والتخريج من حيث إن القياس بمعناه الاصطلاحي أصل من أصول الأحكام الأربعة المتفق عليها لدى الجمهور والذي لا يستند إليه إلا المجتهد المطلق في فتاويه واجتهاداته الفقهية، في حين أن التخريج قياس في الهيئة فحسب، ويختص به المتفقه المجتهد في مذهب إمام من أئمة الاجتهاد المطلق؛ للوصول إلى الحكم الشرعي في النوازل غير المنصوص عليها مباشرة في الكتاب والسنة؛ وذلك من خلال أصول الإمام المجتهد وقواعد مذهبه في فهم الشريعة ومقاصدها. والله تعالى أعلم.
في اللغة والاصطلاح: الدين يأتي في اللغة بعدة معان منها:
الجزاء والحساب، ومنه قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4]. الحُكم، ومنه قوله تعالى : ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ [يوسف: 76])([1]).
وأما الدين في اصطلاح علماء المسلمين فهو: كل ما شرعه الله تعالى لعباده من الأحكام، سواء ما يتصل منها بالعقيدة أو الأخلاق أو الأحكام العملية. وقد بين النبي في حديث جبريل المشهور أن الدين يشتمل على أقسام ثلاثة هي: الإسلام والإيمان والإحسان. أما الإسلام فهو الخضوع والانقياد الظاهر لأوامر الله تعالى ونواهيه. وأما الإيمان فهو الإقرار القلبي والتصديق الباطني لكل ما جاء به النبي. قال الأزهري في تفسير قول الله تعالى : ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾([2]) قال : «الإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وبه يحقن الدم . فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقادٌ وتصديقٌ بالقلب فذلك هو الإيمان ، الذي يقال للموصوف به: هو مؤمن مسلم . فأما من أظهر قبول الشريعة واستسلم ؛ لدفع المكروه ، فهو في الظاهر مسلم ، وباطنه غير مصدِّق ، فذلك الذي يقول : أسلمت. وحكمه- في الظاهر- حكم المسلمين»([3]) . وقد يطلق كل منهما على الدين، لكنه لا يطلق ويراد به الدين إلا إذا انفرد عن صاحبه، أما لو اجتمعا في سياق واحد فيراد بكل منهما معنى مغايرٌ لمعنى الآخر، ويفرق بينهما بما تقدم من أن الإسلام هو الخضوع والاستسلام الظاهري، والإيمان هو التصديق والإقرار القلبي. وأما الإحسان فقد بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث جبريل أنه يعني: مراقبة العبد ربه في كل أحواله، واستحضاره في كل حينٍ اطلاعَ ربِّه على سرِّه وعلانيته. وقد اتخذ علماء الأخلاق والتصوف من هذه القاعدة المحمدية أساسًا بنوا عليه جميع مباحث علم الأخلاق الذي يعتني ببيان أحوال العبد القلبية والوجدانية، وتمييز الصحيح منها والسقيم، وبيان كيفية مداواة الأمراض القلبية للوصول بالقلب إلى حال الصحة. ومدار ذلك كله على مراعاة العبد لاطلاع ربه على القلب، الذي هو محل نظر الرب سبحانه، واستحضاره أن ربه- المطلع على قلبه- يحب أن يرى في هذا القلب كلَّ خُلُق وحال صحيح، ويبغض أن يرى فيه كل خُلُق وحال قبيح.
أهمية الدين في حياة الإنسان: الدين هو القضية الكبرى في حياة الإنسان، فبدون هذا الدين تفقد الحياة قيمتها ومعناها، فما الحياة الدنيا إلا امتحان عظيم ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾(4). وهذا الامتحان يوضع فيه العبد ليختار ما يريد: من طريق الرحمن أو طريق الشيطان: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾(5). فإن اتبع هدى ربه وخالف هواه كان له السعادة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة. وإن اتبع هواه، وأعرض عن طريق مولاه، كانت عاقبة أمره خسرا. ولكي ينجح العبد في امتحان الحياة الدنيا ويفوز بسعادة الدارين، فلا بد له من معرفة المنهج الحق الذي يحيط به علمًا ويلتزم به في حركته في الحياة حتى يحقق مراد ربه سبحانه وتعالى. فاقتضت حكمة المولى سبحانه أن يرشد عباده إلى الدين الحق، لئلا يكون لأحد من العالمين على الله حجة، فأرسل إلى عباده الرسل وأنزل على رسله الكتب التي ترسم للناس معالم الدين الحق وأحكامه وقواعده، حتى إذا ما ساروا على هديها صلحت أحوالهم، واستقامت حياتهم، وساد الوئام والإخاء فيما بينهم، ففازوا بسعادة الدارين. فيتبين بما سبق أن الدين هو الذي يعطي للحياة سرها ومعناها، وأن الالتزام به عليه صلاح أمرها ومبناها.
وحدة الدين وتعدد الشرائع بتعدد الرسالات: إنَّ دين الله تعالى واحد؛ هو الإسلام، الذي جاء به جميع المرسلين من لدن آدم إلى سيد المرسلين: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾(6). وإنما تعددت شرائع الأنبياء في الأحكام العملية؛ تبعا لاختلاف ظروف كل أمة من الأمم، مما يقتضي وجود بعض الاختلافات في الأحكام العملية، والتشريعات التي تنظم علاقات الأفراد بعضهم ببعض. وأما الأحكام المتعلقة بالعقيدة والأخلاق فأمرها واحد عند جميع الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾(7).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) لسان العرب مادة " أمن " . (2) سورة الحجرات : 14 . (3) الموسوعة الفقهية. (4) سورة الملك: 2. (5) سورة البلد: 10. (6) سورة آل عمران: 19. (7) سورة الشورى: 13.
****************************************
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وبعد... فقد اتسم الفقه الإسلامي في عصرنا الحاضر بعدة سمات اختلف فيها عما وُسِم به في كنف نشأة المذاهب الفقهية وتدوينها، كما اختلفت أيضًا طرق تناول قضاياه، ولا يتعجب المرء من اختلاف طرائق تناول موضوعات الفقه أو اختلاف سماته في عصر عما كان عليه في عصور سابقة؛ وذلك لأن من أهم ثمرات الفقه: تقديم حلول شرعية لنوازل ومشكلات الواقع، فالفقه يصطبغ لا محالة بمشكلات عصره الذي يعيش فيه. ومن الموضوعات التي دار النقاش فيها بين الفقهاء والباحثين المعاصرين: ما يتعلق بـ«فقه الأقليَّات»، والمقصود بالأقليَّات هنا: هي المجموعات المسلمة الموجودة في قطر من الأقطار الذي يكون معظم أهله وساكنيه من غير المسلمين.
ومصطلح فقه الأقليَّات مصطلح حادث لم يكن موجودًا في التراث الفقهي، بل استحدث تبعًا لمتغيرات العصر، والذي يؤكد ذلك: "أن الفقه المرتبط بهذه الأقليات فقه نوعي يراعى فيه ارتباط الحكم الشرعي بظروف جماعة ما في مكان محدَّد نظرًا لظروفها الخاصة؛ من حيث كون ما يصلح لها لا يصلح لغيرها"([1])، فالظرف المكاني الذي تلبست به هذه الأقليات قد يجعل لهم في كثير من الأحوال مسوغات اضطرارية تلجئ المفتي إلى الإفتاء بما يخالف معتمد مذهبه، أو الراجح في نظره من حيث الدليل، أو بما يخالف فتاوى المفتين في أماكن تكون فيها الغلبة أو السلطان للمسلمين. وعليه فيمكن أن نقول: إن موضوع فقه الأقليات هو الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام. وهذا الفقه وإن كان ذا نمط خاص -من حيث خصوصيته وموضوعاته ومشكلاته المتميزة- إلا أنه ليس فقهًا مستقلا خارجًا عن إطار الفقه الإسلامي، ومرجعيته الكتاب والسنة وما ينبني عليهما من الأدلة؛ كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب... ونحوها من الأدلة التي أسس عليها الأئمة آراءهم، وكثير من مسائل الأقليات لها نظائر تشبهها منصوص عليها في كتب الفقه التراثية، وإن كانت لها صورة جديدة معاصرة، فمن هنا تعتبر قديمة بالجنس حديثة بالنوع. ومما سبق تظهر أهمية جمع الفتاوى والأحكام المتعلقة بالأقليات المسلمة؛ فهذا الجمع المتضمن ما اعتمدته جهة إفتاء معتبرة مساعد لهم كي يظلوا متشرعين متمسكين بأحكام دينهم مع اندماجهم في مجتمعاتهم التي يعيشون فيها دون أن يحصل تعارض بين أحكام شريعتهم ومقتضيات حياتهم بما يوقعهم في الضيق والحرج والعنت مما يتنزه عنه الشرع الشريف؛ كما قال تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ [المائدة: 6].
وفيما يأتي مقدِّمة تأصيلية مختصرة للتعريف بفقه الأقليات وتشتمل على ما يلي:
أولًا: التعريف بـ«فقه الأقليات».
ثانيًا: أهمية دراسة «فقه الأقليات».
ثالثًا: مرتكزات «فقه الأقليات».
أولًا: التعريف بـ«فقه الأقليات»:
تعريف الفقه اللغوي والاصطلاحي معروف مشهور فلا داعي لاجترار ما كتب فيه، فنتجاوزه لتعريف الأقلية، وهي في اللغة: ضد الأكثرية، والقلة تعني في اللغة: الندرة أو العدم أو النقص([2])، وهذا المعنى اللغوي ملحوظ في التعريف الاصطلاحي للأقليات؛ حيث تدور تعريفات الأقلية على أنها الجماعة الأقل عددًا التي تعيش في مجتمع يتمايز من هم أكثر عددًا عنهم في أحد الأشياء، وغالبًا ما يكون التمايز في الدين أو اللون أو العرق أو الثقافة.
يقول الدكتور علي منتصر الكَتَّاني: "الأقلية هي مجموعة بشرية تعيش بين مجموعة بشرية أكثر عددًا، وتختلف عنها في خاصية من الخاصيات تصبح نتيجتها تعامل معاملة مختلفة عن معاملة الأكثرية" ([3]). وعرَّفها بعضهم بأنها "جماعة فرعية تعيش بين جماعة أكبر، وتكوِّن مجتمعًا تربطه ملامح تميزه عن المحيط الاجتماعي حوله، وتعتبر نفسها مجتمعًا يعاني من تسلط مجموعة تتمتع بمنزلة اجتماعية أعلى وامتيازات أعظم تهدف إلى حرمان الأقلية من ممارسة كاملة لمختلف صنوف الأنشطة الاجتماعية أو الاقتصادية والسياسية، بل تجعل لهم دورًا محدودًا في مجتمع الأغلبية"([4]).
ومما يلاحظ على التعريفات الاصطلاحية بروز مسألة العدد كمعيار للقلة والكثرة، ومعنى ذلك: أن من كان أقل عددًا كان هو الأقلية في مقابل الأكثر عددًا حتى وإن كان الأقل هو من بيده الحكم والسيادة، وهذا المعيار لا نقصده في تعاملنا مع «فقه الأقليات»، لا سيما وأن هناك دولًا يمثل المسلمون فيها كثرة عددية مع أن تلك الدول لا توصف بكونها إسلامية، كما هو الحال في بعض دول جنوب أفريقيا، أو في البلاد التي تنص على أن "لا ديانة لها"، فاعتبار العدد في تحديد مفهوم الأقلية لا يدخل معنا في المراد بـ«فقه الأقليات»، وإنما المعنى الملحوظ الذي نقصده في فقه الأقليات هو وجود المسلم في ديار لا تكون فيه الغلبة والحكم للمسلمين "بلاد غير إسلامية"، فالأقليات إذن: «كل مجموعة تعيش بين مجموعة مختلفة عنها في أحد السمات، وللأخيرة السيادة عليها».
وعلى ذلك فـ«فقه الأقليات» هو: الأحكام الشرعية المتعلقة بالمسلمين الذين يعيشون وسط جماعة غير مسلمة لها السيادة عليهم.
وخصيصة هذا النوع من الفقه: أنه ذو نمط خاص من حيث موضوعاته ومشكلاته المتميزة، إلا أنه ليس فقهًا مستقلًا خارجًا عن الإطار التشريعي العام، أو يعتمد على أسس مغايرة لما اعتمد عليه فقه المذاهب، كما أن كثيرًا من مسائل الأقليات لها نظائر تشبهها منصوص عليها في كتب الفقه التراثية وإن كانت لها صورة جديدة معاصرة، فتخصيص المسائل الشرعية المتعلقة بالأقليات المسلمة بنوع فقه هو اصطلاح قابل للموافقة والرفض، ويمكن أن يعتبر هذا النوع من الفقه الاجتهادي من قبيل الفتوى لطائفة معينة، ويكون حينئذ التطبيق الجلي لقضية تغير الفتوى بتغير المكان الذي هو إحدى جهات تغير الفتوى الأربعة، وبذلك تخرج من حساسية المصطلح ودلالته.
هذا، وإن كان كثير من الباحثين على أن أصل البحث جديد -كما تقدم- إلا أننا نرى أنه ليس كذلك، وأنه في مثل فتوى الأحناف بالعمل بالعقود الفاسدة في غير ديار المسلمين ما ينقض هذا، ويُثبت أن اختلاف الأحكام باختلاف الدار أصل موجود في تراثنا الفقهي.
ثانيًا: أهمية دراسة «فقه الأقليات»:
تزايد الاهتمام بدراسة أحوال المسلمين الموجودين في بلاد غير المسلمين ومشكلاتهم ومسائلهم مع نشوء جيل ليس فقط من المهاجرين إلى تلك البلاد، بل من أصحاب البلاد الأصليين الذين لهم حقوق المواطنة كأقرانهم ممن لا ينتمون لدينهم، بل إن المهاجرين إلى تلك البلاد أصبحت لهم جاليات ومراكز تجمعهم وتعبِّر عنهم، ومنهم من تبوأ مراكز متقدمة في البلاد التي هاجروا إليها، وأصبحت لهم كلمة في صنع القرار، لكن في ظل سيادة وحكم غير المسلمين.
وهذا الواقع المعقَّد يخلق حالة من إعادة النظر في المسائل الفقهية المتعلقة بالمسلمين هناك، وتزداد الحاجة إلى إعادة النظر كي يظل المسلم متشرعًا متمسكًا بأحكام دينه ومعتقدًا أنه يقع تحت مظلة التشريع مع اندماجه في مجتمعه وعدم عيشه غريبًا عنه، ولعدم حصول تعارض بين أحكام الشريعة ومقتضيات حياتهم بما يوقعهم في الحرج أو المشقة أو حصول اليأس من تمسكهم بدينهم، فيكونون على وشك تركه بالكلية.
والتقليل من شأن الخطاب الفقهي لتلك الأقليات المسلمة يعكس مدى الجهل بما تعانيه هذه الأقليات من مشكلات، ولنضرب لذلك مثالًا: وهو التعامل بالربا، فهو لا يجوز قولًا واحدًا في بلاد المسلمين إلا من ضرورة، لكن الأمر يختلف لو كان في بلاد غير المسلمين، وقد أصدرت دار الإفتاء عدة فتاوى في هذا الشأن واختارت فيها المذهب القائل بأنه لا ربا بين المسلم وغير المسلم في دار غير المسلمين وأيَّدته. فهذا مثال من أمثلة عديدة لا بد فيها من مراعاة حال السائل في جوابها، كما أن تلك المسائل ليست من وحي النظر بل يكثر السؤال عنها، وهو ما ينبئ عن الواقع الذي قد لا يجد المسلم الذي يعيش في تلك البلاد مفرًا من التعامل والتكيف معه، فلئن كان له مخرج فقهي يظل معه متشرعًا فتركه مع ما يصيبه من العنت والمشقة أمر غير مقبول.
ولا يتبادر إلى الذهن أن الغرض من دراسة «فقه الأقليات» هو تتبع الترخص أو اتباع الأقوال الضعيفة والشاذة، بل المراد هو مراعاة المقاصد، وفقه الواقع، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه المآلات، وهذا لا يعني بحال من الأحوال التنازل عن الثوابت التي وضعها الإسلام أو المساس بما يمثل هوية الإسلام، وقد سبق أن قلنا: إن هذا الفقه لا يخرج عن الإطار التشريعي العام، وهذا الإطار لا ينازع الثوابت أو الهوية.
ثالثًا: مرتكزات «فقه الأقليات»:
المقصود بمرتكزات فقه الأقليات: الأصول والأسس والضوابط التي يبنى عليها فقه الأقليات، وقد نادى أكثر الباحثين المعاصرين الكاتبين في فقه الأقليات بضرورة اعتماد أصول لهذا النوع من الفقه؛ استجابة لما تمليه ظروف هذه الأقليات في البلاد التي يعيشون فيها.
وقد "اهتم الفقه الإسلامي المعاصر بوضع الأقليات الإسلامية في أوروبا منذ بعض الزمن واتجه إليه بالمعالجة الشرعية التي أثمرت فقهًا من الفتاوى والأحكام ظل يثرى يومًا بعد يوم، ولكن هذا الاهتمام المتزايد بشأن الوجود الإسلامي بأوروبا وما أثمر من ثمار وما تراكم به من فقه؛ ظل يفتقر إلى الحلقة الأساسية من حلقات النظر الفقهي التي من شأنها أن توجه الاجتهاد وترشده في معالجة شأن الوجود ليبلغ مداه المأمول، ألا وهي حلقة التأصيل الفقهي متمثلًا في تقعيد أصولي فقهي لفقه الأقليات مختص به ومبني على مراعاة خصوصية الوضع الذي يعيشه المسلمون بالبلاد الأوروبية من جهاته المختلفة"([5]).
ولئن سلمنا بضرورة وجود أصول وضوابط ينشأ في كنفها فقه الأقليات فلا نسلم أن هذه الأصول بمعزل عن قواعد أصول الفقه التقليدي أو مغايرة لمباحثه ومسائله، بل هي من جملة موضوعاته، وإنما يتميز أصول فقه الأقليات بعمق الدراسة والتناول وحسن الترتيب والجمع، وهذا أيضًا من الخصائص التي تميِّز فقه الأقليات، فليس هذا النوع من الفقه خارجًا عن الإطار التشريعي العام. ونظرًا لوجازة هذه المقدِّمة فنشير هنا إلى بعض هذه الأصول والضوابط وهي تختلف في عددها بين العلماء تبعًا للاختلاف في جودة سَبرِها ودقته.
أولًا: المصلحة:
المصلحة في اللغة تستعمل بمعنيين:
الأول: المنفعة وزنًا ومعنى.
والثاني: الفعل الذي فيه صلاح بمعنى النفع([6]).
ولا تخرج المصلحة في الاصطلاح عما هي عليه في اللغة، إلا أنها في الاصطلاح أخص، فيمكن أن تعرَّف في الاصطلاح بأنها: المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده: من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم وفق ترتيب معين فيما بينها، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعه مصلحة([7]).
وبناء على ذلك فكل ما كان فيه نفع سواء كان بالجلب كما في تحصيل المنافع، أو بالدفع والاتقاء كما في استبعاد المضار؛ فهو جدير بأن يسمى مصلحة([8]).
أما أقسامها فقد قسَّمها الأصوليون باعتبارات عديدة إلى أنواع مختلفة، وما يهمنا هنا تقسيمها من حيث اعتبار الشارع لها، وتنقسم بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام:
1) المصلحة المعتبرة: وهي التي شهد الشرع باعتبارها، وقام الدليل على رعايتها من نصٍ أو إجماع، كتحريم شرب الخمر؛ لحفظ العقل، وكوجوب القصاص في القتل العمد العدوان؛ لحفظ النفوس، وكذا مشروعية الضمان؛ لحفظ المال، الذي هو مقصد شرعي معتبر أيضًا، فإذا نص الشرع على حكم ما وأرشد -بمسلك من المسالك- إلى العلة التي ربط بها هذا الحكم -لما في هذا الربط من تحقق مصلحة مقصودة للشارع- فإن هذه المصلحة معتبرة، وكل واقعة وجدنا فيها هذه العلة متحققة صح تعدية الحكم إليها، ويكون شَرْع الحكم في مثل هذه الواقعة بالعلة لا بالمصلحة.
2) المصلحة الملغاة: وهي التي شهد الشرع ببطلانها وعدم اعتبارها بنصٍ أو إجماع، وبعض الأصوليين يسميها المناسب الغريب، ومن أمثلة هذا النوع: القول بتساوي الأخ وأخته في الميراث؛ لوجود معنى الأخوة الجامعة بينهما، فهذا المعنى ملغى بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 176]. فكل ما يظن فيه مصلحة لكن نص الشرع أو وقع الإجماع على عدم اعتبارها فهي مصلحة ملغاة.
3) المصلحة المسكوت عنها: وهي التي لم يشهد لها الشرع بالاعتبار أو الإلغاء لكنها توافق مقاصد الشرع العامة من جلب نفع
أو دفع ضر([9])، وهي ما تسمى بالمصلحة المرسلة أو المناسب المرسل([10]).
ويعد القسم الثالث من المصالح بهذا الاعتبار – أي: المرسلة- موضع خلاف الأصوليين بين قائل بحجيته مطلقًا، وبين مانع من ذلك، وبعيدًا عمن قال بكل رأي وأدلة قوله فليس هذا ما يعنينا في هذا المقام، فإن ما يخصنا هو أن اختلاف الأصوليين في هذا النوع من المصلحة إنما هو في الحجية، بمعنى جعل هذا النوع من المصلحة دليلًا شرعيًا مستقلًا يستثمر منه الحكم([11])، لا في الترجيح بها، وعليه فالقَدْر المشترك بين القائل بالحجية وبين النافي لها: اتفاقهم على الترجيح بها عند التعارض، وأكثر المسائل -إن لم يكن كلها- التي يستند فيها إلى المصلحة المرسلة يحتاج إليها في الترجيح بين المتعارضات.
وقد وضع العلماء بعض الشروط والضوابط لهذا الترجيح، وهي:
1) أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشارع([12]): ومقاصد الشرع تشمل الضروريات والحاجيات والتحسينيات، يقول الزنجاني: "ذهب الشافعي -رضي الله عنه- إلى أن التمسك بالمصالح المستندة إلى كلي الشرع - وإن لم تكن مستندة إلى الجزئيات الخاصة المعينة- جائز"([13]).
وبعض الأصوليين -كابن الحاجب- يسمي المصلحة المرسلة الملائمة لتلك المقاصد ( مرسلًا ملائمًا)([14])، والمعنى: أنه يشترط الملائمة بين المصلحة المرسلة ومقاصد الشرع في الجملة بحيث لا تنافي أصلًا من أصوله ولا دليلًا من أدلته، بحيث تكون من جنس المصالح الكلية التي قصد الشارع إلى تحصيلها، أو قريبة منها، وليست غريبة عنها، وإن لم يشهد لها دليل خاص بالاعتبار([15]).
2) أن لا تخالف نصًا من الكتاب أو السنة، أو إجماعًا، أو قياسًا صحيحًا: فالنص -من حيث دلالته على معناه وحكمه- نوعان: نص قطعي، ونص ظني، فالأول: ما كان مقطوعًا به ثبوتًا ودلالة، فلا يجوز للمصلحة التي يعوِّل عليها المجتهد أن تعارض نصًّا قطعيًّا([16]).
ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، فالنص قطعي الثبوت وقطعي الدلالة على الفرق بين البيع والربا في الحرمة، فلا أثر لأي مصلحة مظنونة تخالف هذا النص القطعي مهما قويت وترجحت([17]). وأما الثاني: وهو النص الظني بمراتبه، فهو الذي يدل على أكثر من معنى، فوظيفة المجتهد حينئذ حصر تلك المعاني التي يحتملها النص، ومن ثَمَّ العمل على تحديد أقربها وأنسبها للمصلحة المشروعة، ولا مانع هنا من معارضة المصلحة -في حالة معينة- لغير ذلك المعنى المحدد على وفق المصلحة، إنما الممنوع تعارض المصلحة لجميع مدلولات النص الظني؛ لأن معارضة كل مدلولات النص الظني كمعارضة النص القطعي تمامًا، فإذا عارضت المصلحة كل المدلولات الظنية فحكمها كحكم معارضة الدلالة القطعية، وعليه فلا يجوز مثلًا مخالفة مدلولي الحيض والطُهْر للقُرْء؛ بإحداث قول ثالث لجلب مصلحة المرأة أو الرجل، وكذلك يحرم مخالفة معنيي الملامسة الواردين في الآية: اللمس أو الوطء، فلا يجوز إحداث رأي ثالث حينئذ، وغير ذلك من المعاني المحتملة للنص الظني التي لا يجوز العدول عنها إلى غيرها بمجرد توهم المصلحة وتخيلها، أو الظن بها ظنًّا ضعيفًا مرجوحًا([18]).
أما الإجماع: فإنه ينقسم باعتبار قوته إلى قطعي وظني، فالأول: مثل إجماع الصحابة المنقول بالتواتر، والإجماع على ما علم من الدين بالضرورة، فهذا النوع من الإجماع لا يتغير بالمصلحة مهما كانت؛ فالإجماع القطعي كالنص القطعي.والثاني: كالإجماع السكوتي الذي غلب على الظن فيه اتفاق الكل، فإذا كان الإجماع قائمًا على أحكام متغيرة بتغير الزمان والمكان والحال ومبنيًا على مصلحة ظرفية لم تثبت أبديتها وبقاؤها، فإنه خاضع للتعديل والتغيير بموجب المصلحة الحادثة، ومجرد الاتفاق في عصر على حكم لمصلحة لا يكفي في أبديته، بل لا بد مع هذا الاتفاق من اتفاق آخر على أنه دائم لا يتغير([19]).
أما القياس: فهو مساواة فرع لأصل في علة حكمه، وهذه العلة تتناسب مع ما شرع الحكم لأجله، بمعنى كون الحكم مقترنًا بوصف مناسب لبناء الحكم عليه، وهو ما يسميه الأصوليون (المناسب)، وهو تختلف درجاته ومراتبه باختلاف اعتباره أو إلغائه شرعًا؛ إذ هناك وصف اعتبره الشارع، ووصفٌ ألغاه، ووصف لم يعتبره ولم يلغه، وفي الحالة التي يكون فيها الوصف معتبرًا عند الشارع، فإن التعبير عنه يكون متعدد الوجوه، فتارة يكون الوصف المناسب منصوصًا عليه تصريحًا أو إيماء، أو منصوصًا على جنسه أو نوعه. والمقصد من بيان هذه التقسيمات للمناسب معرفة المقبول من غيره، وإجراء القياس، والترجيح بين الأقيسة والمصالح عند تعارضها، وإبراز تفاوت المصالح في منظور الشارع بتفاوت الاعتبار الشرعي لها قوة وضعفًا؛ وبناء عليه فإذا كانت المصلحة مرسلة معارضة لقياس بني على علة تشتمل على وصف (مصلحة) مؤثر أو ملائم- فتكون المصلحة مطروحة؛ لتعارضها مع قياس صحيح، أو قل: لتعارضها مع مصلحة أقوى منها([20]).
3) أن يكون العمل بها في غير الأمور التعبدية: وهي ما لا يعقل معناها؛ كأعداد الركعات، والمقدرات من الحدود، وفروض الإرث، وما شابه([21])، لكن ربما يقع الاستصلاح في الوسائل المطلقة لبعض العبادات، لا في ذات العبادة وأصلها، ولا في وسائلها التوقيفية التي ورد بها الشارع، ومثال ذلك: استخدام بعض الأجهزة الحديثة لمعرفة استقبال القبلة ودخول وقت الصلاة([22]).
4) أن لا تعارض مصلحة أهم منها في القوة والرجحان: فإذا كان كذلك وكان ما تحافظ عليه هاتان المصلحتان في تفاوتٍ بالنظر إلى الذات -كما إذا حافظت إحداهما على ضروري والأخرى على حاجي- فتُقدَّم ما تحافظ على الضروري، وكذا تُقدَّم ما تحافظ على الحاجي إذا كانت مقابلتها تحافظ على التحسيني، فإن كانتا غير متفاوتتين -بل كلتاهما في درجة واحدة- فينظر إلى شيئين: أولهما: مقدار الشمول، فالمصلحة العامة مقدَّمة على الخاصة، وثانيهما: التأكد من وقوع نتائجها، فالمصلحة اليقينية تقدم على الظنية([23]).
ثانيًا- التيسير:
يأتي مبدأ التيسير في الشريعة الإسلامية بشكل عام -وفي الفتوى بشكل خاص- ليناهض فكرة التشديد على الناس وإلزامهم الأخذ بالاحتياط والعمل بالأشق في كل نازلة مستحدثة يختلف في تكييفها العلماء وتتعدد أقوالهم في حكمها تبعًا لذلك، وقد ورد عن بعض أهل العلم ذم التساهل في الفتوى، ويتخذ بعض الناس من هذا ذريعة لرفض مبدأ التيسير، لكن في الحقيقة هناك فرق كبير بين التساهل والتيسير، وكما ورد عن العلماء ذم التساهل في الفتوى، ورد عنهم أيضا استحسان التيسير على الناس والتماس المخرج الشرعي لهم مما يشق عليهم التزامه ولا تستقيم معه أحوالهم. يقول الإمام النووي: «يحرم التساهل في الفتوى, ومن عرف به حرم استفتاؤه, فمن التساهل: أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر, فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس بالمبادرة, وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة، ومن التساهل: أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة, والتمسك بالشُّبَه؛ طلبًا للترخيص لمن يروم نفعه, أو التغليظ على من يريد ضره, وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها؛ لتخليص من ورطة يمين ونحوها- فذلك حسن جميل، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا, كقول سفيان: "إنما العلم عندنا: الرخصة من ثقة, فأما التشديد فيحسنه كل أحد"»([24]) ومما ذكره الإمام النووي يتجلى الفارق الجوهري بين التساهل والتيسير، فالتساهل ينشأ عن فوضى وقصور في البحث، بينما التيسير ينشأ عن رسوخ في العلم, ودراية بأحوال الناس وحاجاتهم وواقعهم، وإدراك لمقاصد التشريع واعتبارها ركنًا أصيلًا في الفتوى، فالتيسير منهج علمي مدروس ومقنن بعناية كبيرة من قِبل علماء الشريعة وأئمة الفقه. فيكون المقصود بالتيسير: "تشريع الأحكام على وجه يراعى فيه حاجة المكلف وقدرته على امتثال الأوامر واجتناب النواهي مع عدم الإخلال بالمبادئ الأساسية للتشريع"([25]).
ودور المفتي هو بيان الحكم الشرعي لمن سأل عنه، وقد يأتيه استفتاء في مسألة قديمة تعددت فيها آراء أهل العلم، وقد يأتيه في مسألة حديثة لم يتعرض لها السابقون وتحتاج لاجتهاد معاصر، وفي كلا الحالين ينبغي عليه أن يبذل قصارى جهده في الوصول إلى الحكم الشرعي المتعلق بواقعة السؤال، سواء كان بترجيحه للأقوال، أو بنظره في الأدلة ونصوص الوحي، أو بتخريجه فتواه على قواعد العلماء وأصول مذاهب المجتهدين، وعليه أيضًا -أثناء ذلك- أن يضع نصب عينيه قصد الشريعة المطهرة إلى التكليف الذي يكون به صلاح العباد واستقامة أحوالهم، والذي لا يشق عليهم امتثاله، فالتكليف في الإسلام مقرون بالتيسير والتخفيف. وقد ورد في كتاب الله تعالى وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نصوص صريحة في إظهار اليسر في التشريع ونفي العسر أو الحرج عنه، بالإضافة إلى أمر المكلفين بالتيسير، خاصة العلماء منهم؛ لأنهم المبلغون عن الله شرعه، وهم من يهرع إليهم الناس إذا نزلت بهم نازلة؛ لمعرفة حكم الله تعالى. قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، قال الخازن في تفسيره: "أي: قد نفى عنكم الحرج في أمر الدين، قيل: ما خُيِّر رجل بين أمرين فاختار أيسرهما إلا كان أحب إلى الله تعالى"([26]). وقال الله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6]، قال الإمام الرازي: "اعلم أن هذه الآية أصل كبير معتبر في الشرع، وهو أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة، ويدل عليه هذه الآية؛ فإنه تعالى قال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾[البقرة: 185]، ويدل عليه من الأحاديث قوله عليه السلام: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»، ويدل عليه أيضًا: أن دفع الضرر مستحسن في العقول، فوجب أن يكون الأمر كذلك في الشرع؛ لقوله عليه السلام: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ»"([27]). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بَالَ أعْرَابيٌّ في المَسْجِدِ، فَقَامَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِيَقَعُوا فِيهِ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «دَعُوهُ وَأرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ؛ فَإنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»([28]). قال المناوي: "«فَإنَّمَا بُعِثْتُمْ» أيها المؤمنون «مُيَسِّرِينَ»... قال الحرالي: والتيسير: تحمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم، والعسر بما يجهد النفس ويضر الجسم، ثم أكد التيسير بنفي ضده وهو التعسير، فقال: «وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» إسناد البعث إليهم مجاز؛ لأنه المبعوث بما ذكر، لكن لما نابوا عنه في التبليغ أطلق عليهم ذلك، إذ هم مبعوثون من قبله، أي: مأمورون، وكان ذا شأنه مع كل من بعثه لجهة يقول: "يسروا ولا تعسروا"، وهذا قاله لمّا بال ذو الخُويصرة اليماني أو الأقرع بن حابس بالمسجد"([29]). وعن أنس -رضي الله عنه- عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «يَسِّرُوا ولَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا ولَا تُنَفِّرُوا» ([30]). قال المناوي: "«يَسِّرُوا»... أي: خذوا بما فيه التيسير على الناس بذكر ما يؤلفهم لقبول الموعظة في جميع الأيام؛ لئلا يثقل عليهم فينفروا، وذلك لأن التيسير في التعليم يورث قبول الطاعة، ويُرغِّب في العبادة، ويسهُل به العلم والعمل، «وَلَا تُعَسِّرُوا» لا تشددوا، أردفه بنفي التعسير مع أن الأمر بشيء نهي عن ضده؛ تصريحًا لما لزم ضمنًا للتأكيد، ذكره الكرماني، وأولى منه قول جمع: عقبه به إيذانًا بأن مراده نفي التعسير رأسًا، ولو اقتصر على «يَسِّرُوا» لصدق على كل من يسر مرة وعسر كثيرًا، كذا قرره أئمة هذا الشأن ومنهم النووي وغيره"([31]). والناظر في الأحكام الشرعية الأصلية والفرعية يرى أنها مبنية على اليسر ووضع الحرج عن المكلفين، وهذا يعد من مزايا شريعة الإسلام. ومن التطبيقات الجلية لمبدأ التيسير: "الترخص عند الابتلاء"، وهي من القواعد المهمة التي ينبغي على الفقيه والمفتي أن ينتبه إليها، فمن ابتلي بشيء من المختلف فيه فله أن يقلد من أجاز؛ تخلصًا من الوقوع في المحرم، وذلك من التيسير على الناس في أمور دينهم، ورفع المشقة والحرج عنهم، وتصحيح أفعالهم ومعاملاتهم ما أمكن، ولأن يُقدمَ المرء على فعل شيء وله وجه يجيزه شرعًا خير له من أن تُغَلَّق أمامه كل الأبواب فلا يجد أمامه من سبيل إلا اقتحام المحرم، وقد كان له سعة بأن يقلد من أجاز.
وقد جاء ذكر أصل الترخص عند الابتلاء في كلام العلماء، ومنهم شيخ الإسلام البيجوري والعلامة الشرواني؛ ففي حاشية البيجوري على شرح ابن قاسم لمتن أبي شجاع في الفقه الشافعي -عند قول الشارح: "ولا يجوز -في غير ضرورة- لرجل أو امرأة استعمال شيء من أواني الذهب والفضة"، قال محشِّيًا: "عده البلقيني -وكذا الدميري- من الكبائر، ونقل الأذرعي عن الجمهور أنه من الصغائر، وهو المعتمد، وقال داود الظاهري بكراهة استعمال أواني الذهب والفضة كراهة تنزيهية، وهو قول للشافعي في القديم، وقيل: الحرمة مختصة بالأكل والشرب دون غيرهما؛ أخذًا بظاهر الحديث، وهو: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما»، وعند الحنفية قول بجواز ظروف القهوة، وإن كان المعتمد عندهم الحرمة، فينبغي لمن من ابتلي بشيء من ذلك -كما يقع كثيرًا- تقليد ما تقدم؛ ليتخلص من الحرمة»([32]). ومثله في حاشية الشرواني على التحفة([33]). وأخيرًا: فإن المحذور في قضية التيسير هو التساهل، وهو عدم التثبت في المسائل ودراستها كما ينبغي حتى يتبين للمفتي الحق في المسألة، والحق أن أصل التيسير إن روعي بضوابطه يعد مخرجًا شرعيًّا في كثير من المسائل العصرية التي تتجاذبها الأنظار حِلًّا وحُرمة.
ثالثًا: الإفتاء بالقول الضعيف:
الإفتاء بالقول الضعيف يرتبط بمدى جواز العمل به، فإذا جوَّزنا العمل به فالإفتاء به جائز أيضًا، ولذا فكل ما سيأتي عن العمل بالقول الضعيف فإنه ينسحب على الإفتاء به.
والذي صرح به العلماء هو أن المجتهد يجب عليه العمل بالراجح في ظنه، ونُقِل الإجماع على ذلك، فلا يَعدِل عن الراجح إلى غيره إلا بمسوِّغات ستذكر، يقول القرافي: "إن الحاكم إذا كان مجتهدًا فلا يجوز له أن يحكم ويفتي إلا بالراجح عنده، وإن كان مقلدًا جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه، وأن يحكم به وإن لم يكن راجحًا عنده، مقلدًا في رجحان القول المحكوم به إمامَه الذي يقلده كما يقلده في الفتيا، وأما اتباع الهوى في الحكم أو الفتيا فحرام إجماعًا"([34])، ويقول ابن الهمام: "الإجماع على وجوب العمل بالراجح من الدليلين وترك المرجوح"([35])، ويقول الدسوقي: "ويجب على كلٍ من الخليفة والقاضي -إذا لم يكن مجتهدًا مطلقًا- أن يحكم بالراجح من مذهب إمامه أو أصحاب إمامه، لا بمذهب غيره ولا بالضعيف من مذهبه، وكذا المفتي"([36])، إلى غير ذلك من النصوص التي تؤيد ذلك.
وقد استدل العلماء على وجوب العمل بالراجح بأدلة منها: أن كلًّا من القولين الراجح والمرجوح لا يخرج عن كونهما ظنيين، أحدهما أقوى من الآخر، والاتفاق على أنه لا يجوز العمل بالأضعف عند وجود الأقوى، كما أن الظنيين إذا تعارضا ثم ترجَّح أحدهما على الآخر فالعمل بالراجح أولى من المرجوح؛ لأن بيِّنة الراجح اختصت بما يفيد زيادة الظن، فصارت الأخرى كالمعدومة، فيصير العمل بالراجح متعيَّنًا عرفًا، فيجب شرعًا؛ لأن «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» ([37]).
إلا أن العلماء قد أجازوا العمل بالمرجوح والإفتاء به؛ لحدوث ضرورة، أو لجلب مصلحة راجحة، أو دفعًا لمفسدة، ويدخل في ذلك تقليد مذهب الغير في إحدى الحالات المذكورة.
وكتب الفقه مليئة بالفروع الدالة على ذلك؛ منها: كلامهم في الصلاة خلف إمام مخالف للمأموم في الفروع رغم أنه قد يفعل في صلاته ما لا يعتقده هو راجحًا؛ منعًا للفتنة وحرصًا على اجتماع المسلمين([38]).
كما أجاز الشافعية تقليد القول بجواز استعمال ظروف القهوة من ذهب أو فضة عند الحنفية لمن ابتلي به؛ ليتخلص من الحرمة([39]).
وقد أشار ابن عابدين إلى جواز العمل بالمرجوح في منظومته "عقود رسم المفتي"([40]):
ولا به يجاب من جا يسأل
ولا يجوز بالضعيف العمل
أو من له معرفة مشهورة
إلا لعامـــل له ضرورة
وأما في خصوص الإفتاء؛ فنصَّ ابن عابدين في شرح منظومة "عقود رسم المفتي" بعد أن ذكر شيئًا من الأقوال الضعيفة في المذهب الحنفي: "وفي المعراج عن فخر الأئمة: لو أفتى مفتٍ بشيء من هذه الأقوال في مواضع الضرورة؛ طلبًا للتيسير لكان حسنًا. انتهى. وبه علم أن المضطر له العمل بذلك لنفسه كما قلنا، وأن المفتي له الإفتاء به للمضطر، فما مرَّ من أنه ليس له العمل بالضعيف ولا الإفتاء به محمول على غير موضع الضرورة"([41]).
فمقصد التيسير يجعل القول الضعيف قابلا للعمل به؛ لعروض المشقة، لكن لا بد أيضًا من الالتفات إلى ألا يكون الضعف شديدًا، بمعنى أن يكون القول معتبرًا، وأن يُعرف قائله؛ خشية أن يكون ممن لا يُقتدى به علمًا وحالًا، وأن تتحقق حالة الضرورة أو المصلحة الراجحة، أو للعمل على دفع مفسدة، أو الوقوع في الابتلاء.
ومسألة الإفتاء بالضعيف يبقى النظر فيها للمفتي، وتختلف فتواه من شخص لآخر؛ تبعًا لقوة درايته بما يكتنف المستفتي من أحوال تستوجب المصير إلى القول الضعيف.
والله تعالى أعلى وأعلم، والحمد لله أولًا وآخرًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع: بحث د/ طه جابر العلواني باسم: «مدخل إلى فقه الأقليات ... نظرات تأسيسية»، منشور بمجلة: "إسلامية المعرفة"، العدد (19). (2) راجع: المصباح المنير (2/ 514)، مادة (ق ل ل). (3) راجع: الأقليات الإسلامية في العالم اليوم للدكتور/ علي الكتاني. وانظر: الأقليات الإسلامية وما يتعلق بها من أحكام في العبادات والإمارة والجهاد لمحمد درويش سلامة، رسالة ماجستير بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية- جامعة أم القرى. (4) راجع: الأقليات الإسلامية وما يتعلق بها من أحكام في العبادات والإمارة والجهاد ص (15). (5) نحو منهج أصولي لفقه الأقليات، للدكتور/ عبدالمجيد النجار، ص (50) بحث منشور في المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، العدد الثالث، ربيع الثاني 1424هـ. (6) راجع: لسان العرب (2/ 516)، مادة (ص ل ح)، ومختار الصحاح ص (85)، فصل الصاد من باب الحاء، والمصباح المنير ص (345)، مادة (ص ل ح)، والمعجم الوسيط ص (520). (7) راجع: المستصفى للغزالي ص (174). (8) راجع: رسالة في رعاية المصلحة، للطوفي ص (25)، وضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، للدكتور/ البوطي، ص (23). (9) وليس معنى هذا أن المصلحة المرسلة مجردة عن أي دليل تستند إليه، بل لا بد أن تكون مستندة إلى دليل ما اعتبره الشارع غير أنه دليل لا يتناول أعيان هذه المصالح بخصوصها، وإنما يتناول الجنس البعيد لها، كجنس حفظ الأرواح والعقول والأنساب. انظر: أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي، للدكتور/ مصطفى ديب البغا، ص (36). (10) اختلفت تعاريف العلماء لهذا النوع من المصلحة، وما ذكرناه هو خلاصة تعريفاتهم، وهو ما أقره مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الخامسة عشرة بمسقط (سلطنة عمان) 14 - 19 المحرم 1425هـ، الموافق 6 - 11 مارس 2004م، البند الأول. وانظر: المستصفى ص (174)، ونهاية السول (4/ 98)، وضوابط المصلحة للبوطي ص (216). (11) ولذلك عند تقسيم الأصوليين الكتبَ والأبواب فإننا نراهم قد جعلوا هذا النوع من المصلحة من الأدلة المختلف فيها. (12) راجع: التقرير والتحبير (3/ 153)، والموافقات (3/ 47). (13) تخريج الفروع على الأصول ص (320). (14) راجع: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 126)، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج (3/ 153). (15) انظر: علاقة المصالح المرسلة بالتطور والثبات في التشريع الإسلامي، للدكتور/ ماهر حامد الحولي، ص (11). (16) راجع: الاجتهاد المقاصدي: حجيته، ضوابطه، مجالاته، للدكتور/ نور الدين خادمي، ص (34- 35). (17) انظر: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، للدكتور/ البوطي، ص (133). (18) انظر: الاجتهاد المقاصدي ص (38- 39) بتصرف وزيادات. (19) راجع: الاجتهاد المقاصدي ص (40- 42). (20) راجع: الاجتهاد المقاصدي ص (43- 44). (21) راجع: أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي ص (40). (22) راجع: فتوى الدكتور/ محمد حسين الجيزاني بعنوان: «إعمال المصالح المرسلة في العبادات» على شبكة المعلومات الدولية: http:/ / www.islamtoday.net (23) راجع: المصالح المرسلة وإسعافها للمفتين لا سيما في الغرب، للدكتور/ محمد موفق الغلاييني ص (12)، بتصرف وزيادات. (24) مقدمة المجموع (1/ 79). (25) مظاهر التيسير في الشريعة الإسلامية ص (7)، لكمال جودة أبو المعاطي، بحث مقدم لنيل درجة الدكتوراة بجامعة الأزهر، القاهرة، عام 1975م. (26) تفسير الخازن (1/ 156). (27) تفسير الإمام الرازي (11/ 139). (28) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: قول النبي يسروا ولا تعسروا، حديث رقم (6128). (29) فيض القدير (2/ 573). (30) متفق عليه. (31) فيض القدير (6/ 462- 461). (32) حاشية العلامة الباجوري على شرح ابن قاسم الغزي على متن أبي شجاع (1/ 41). (33) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج (1/ 119). (34) الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي ص (92). (35) فتح القدير لابن الهمام (5/ 481). (36) حاشية الدسوقي (4/ 130). وللتوسع في ذكر النقول انظر: رفع العتاب والملام عمن قال العمل بالضعيف اختيارًا حرام لأبي عبدالله محمد بن قاسم القادري ص (27). (37) رواه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود موقوفًا (1/ 379)، بلفظ: «فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ». وراجع: المحصول (5/ 398)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 680). (38) راجع: المغني لابن قدامة (2/ 11). (39) راجع: تحفة المحتاج بحاشية الشرواني (1/ 118). (40 ) (1/ 48).
**********************************
هناك تسهيلٌ من الشرع الشريف في بعض أحكامه، وهو ما يعرف في الفقه بالرخصة الشرعية، وهذا الاستثناء من الأدلة العامة لرفع الحرج عن المكلفين يُنظر إليه على أنه مخالفٌ للأصل، فهل يجوز - بعد الوقوف على علته- قياسُ الفقيه عليه أو لا؟ وَالرُّخْصَةُ لُغَةً: السُّهُولَةُ. قال الفيومي في «المصباح المنير»: «وَالرُّخْصَةُ التَّسْهِيلُ فِي الأَمْرِ وَالتَّيْسِيرُ، يُقَالُ: رَخَّصَ الشَّرْعُ لَنَا فِي كَذَا تَرْخِيصًا وَأَرْخَصَ إرْخَاصًا: إذَا يَسَّرَهُ وَسَهَّلَهُ، وَفُلانٌ يَتَرَخَّصُ فِي الأَمْرِ: أَيْ لَمْ يَسْتَقْصِ، وَقَضِيبٌ رَخْصٌ: أَيْ: طَرِيٌّ لَيِّنٌ، وَرَخُصَ الْبَدَنُ بِالضَّمِّ رَخَاصَةً وَرُخُوصَةً: إذَا نَعُمَ وَلانَ مَلْمَسُهُ فَهُوَ رَخْصٌ. [المصباح المنير ص223، مادة: ر خ ص، ط. المكتبة العلمية]. وأما الرخصة في الشرع فمعناها قريب من المعنى اللغوي؛ فهي تيسير ورد على خلاف الأصل لرفع المشقة، قال الإسنوي: وَأما فِي الشَّرْع فالرخصة هِيَ الحكم الثَّابِت على خلاف الدَّلِيل؛ لعذر هُوَ الْمَشَقَّة والحرج. [التمهيد في تخريج الفروع على الأصول ص71، مؤسسة الرسالة، بيروت]. وقال ابن النجار: «(وَ) الرُّخْصَةُ (شَرْعًا: مَا ثَبَتَ عَلَى خِلافِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لِمُعَارِضٍ رَاجِح). فَقَوْلُهُ: (مَا ثَبَتَ عَلَى خِلافِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ) احْتِرَازٌ عَمَّا ثَبَتَ عَلَى وَفْقِ الدَّلِيلِ، فَإِنَّهُ لا يَكُونُ رُخْصَةً، بَلْ عَزِيمَةً؛ كَالصَّوْمِ فِي الْحَضَرِ. وَقَوْلُهُ: (لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ) احْتِرَازٌ عَمَّا كَانَ لِمُعَارِضٍ غَيْرِ رَاجِحٍ، بَلْ إمَّا مُسَاوٍ، فَيَلْزَمُ الْوَقْفُ عَلَى حُصُولِ الْمُرَجِّحِ، أَوْ قَاصِرٍ عَنْ مُسَاوَاةِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، فَلا يُؤَثِّرُ، وَتَبْقَى الْعَزِيمَةُ بِحَالِهَا». [شرح الكوكب المنير 1/ 478، ط.مكتبة العبيكان]. وأما القياس فهو فِي اللُّغَةِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى التَّسْوِيَةِ عَلَى الْعُمُومِ، قال الجوهري: وقست الشيء بغيره وعلى غيره أقيسُهُ قَيْسًا وقِياسًا فانْقاسَ: إذا قدَّرته على مثاله. وفيه لغة أخرى قسته أقوسه قوسًا وقياسًا، ولا يقال: أَقَسْتُهُ، والمقدارُ مِقْياسٌ، وقايَسْتُ بين الأمرين مُقايَسَةً وقِياسًا. [الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، 3/ 967، مادة قوس، ط. دار العلم للملايين]. وَالقياس فِي الشَّرْعِ تَسْوِيَةٌ خَاصَّةٌ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، قال ابن قدامة: وهو في الشرع حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما. وقيل: حكمك على الفرع بمثل ما حكمت به في الأصل، لاشتراكهما في العلة التي اقتضت ذلك في الأصل. وقيل: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما، بجامع بينهما: من إثبات حكم أو صفة لهما، أو نفيهما عنهما. ومعاني هذه الحدود متقاربة. [روضة الناظر وجنة المناظر 2/ 141، ط. مؤسسة الريّان للطباعة والنشر والتوزيع]. وقد تكلم الأصوليون وغيرُهم عن هذه المسألة في الكلام على القياس وهل يتناول الرخص والحدود والمقدرات ونحوها أم لا. وأما الراجح في هذه المسألة فهو جواز القياس على الرخص في إثبات الحكم الشرعي، ولا مانع من ذلك إذا عرفنا العِلَّة وتحققنا منها. وأما الدليل على صحة ذلك فهو عموم الأدلة المثبتة للقياس من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، فكل حكم شرعي عرفت علته وتحققت في الفرع المطلوب الحكم فيه مع وجود باقي شروط القياس يلحق فيه حكم الأصل بالفرع؛ لأن الرخصة لا تخرج عن كونها حكمًا شرعيًّا، ولم يأتِ من الشرع ما يخرجه عن عموم الأدلة. كما يستدل أيضا بالقياس على ثبوت الرخص بخبر الواحد المفيد للظن، بجامع أن كلا منهما يفيد الظن، ويجوز الخطأ والسهو في كل منهما. وبنحو ما ذكرنا صرحت طوائفُ كثيرة من أهل العلم: قال الغزالي: «الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا اسْتُثْنِيَ عَنْ قَاعِدَةٍ سَابِقَةٍ وَيَتَطَرَّقُ إلَى اسْتِثْنَائِهِ مَعْنًى، فَهَذَا يُقَاسُ عَلَيْهِ كُلُّ مَسْأَلَةٍ دَارَتْ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَبْقَى وَشَارَكَ الْمُسْتَثْنَى فِي عِلَّةِ الاسْتِثْنَاءِ، مِثَالُهُ: اسْتِثْنَاءُ الْعَرَايَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ نَاسِخًا لِقَاعِدَةِ الرِّبَا وَلَا هَادِمًا لَهَا، لَكِنْ اسْتُثْنِيَ لِلْحَاجَةِ، فَنَقِيسُ الْعِنَبَ عَلَى الرُّطَبِ؛ لِأَنَّا نَرَاهُ فِي مَعْنَاهُ». [المستصفى ص326، ط. دار الكتب العلمية]. وقال النووي: «وَنَبَّهَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: الْأَغْنِيَاءُ لَا يُشَارِكُونَهُمْ فِي الْحَاجَةِ، عَلَى امْتِنَاعِ الْقِيَاسِ لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْعِلَّةِ، لَا لِأَجْلِ كَوْنِ ذَلِكَ وَارِدًا عَلَى سَبِيلِ الرُّخْصَةِ، فَإِنَّ مَذْهَبَنَا جَوَازُ الْقِيَاسِ فِي الرُّخَصِ إذَا حَصَلَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعِلَّةِ كَغَيْرِهَا». [المجموع 10/ 349، ط. المنيرية]. وقال ابن بدران: «وَأما المعدول بِهِ عَن الْقيَاس فَلَا يَخْلُو من أَن تفهم علته أَو لا، فَإِن فهمت الْعلَّة فِيهِ ألحق بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ؛ كقياس عرية الْعِنَب على عرية الرطب فِيمَا دون خَمْسَة أوسق؛ إِذِ الْعلَّة مفهومة، وَهِي الرُّخْصَة للنَّاس والتوسعة عَلَيْهِم إِذا احتاجوا إِلَيْهِ؛ وكقياس أكل بَقِيَّة الْمُحرمَات على أكل الْميتَة للضَّرُورَة؛ بِجَامِع اسْتِبْقَاء النَّفس بذلك، وَيُقَاس عَلَيْهِ الْمُكْرَه على أكلهَا؛ لِأَنَّهُ فِي معنى الْمُضْطَر إِلَى التغذي بها بالجامع الْمَذْكُور، وَإِن لم تفهم عِلة المعدول عَن الْقيَاس لم يلْحق بِهِ غَيره، وَذَلِكَ كتخصيص أبي بردة بِأَنَّهُ ذبح جَذَعَة من الْمعز فِي الْأُضْحِية، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- ((هِيَ خير نسيكتيك، وَلَا تجزي جَذَعَة لأحد بعْدك)). والْحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، والترمذي وصححه». [المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ص315، ط مؤسسة الرسالة، بيروت]. على أن الأحناف وبعض المعتزلة ينقل عنهم أنهم لا يدخلون القياس في الرخص وغيرها [ينظر: الفصول من الأصول للجصاص 4/ 105، ط. وزارة الأوقاف الكويتية، تيسير التحرير لأمير بادشاه 4/ 103، ط. دار الفكر]. قال الغزالي: «كَذَلِكَ قَوْلُهُمْ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ رُخْصَةً خَارِجَةً عَنْ الْقِيَاسِ غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُضْطَرِّ، فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ، وَإِلَّا فَلْنَقِسِ الْخَمْرَ عَلَى الْمَيْتَةِ، وَالْمُكْرَهَ عَلَى الْمُضْطَرِّ فَهُوَ مُنْقَاسٌ». [المستصفى ص327، ط. دار الكتب العلمية]. على أن الأحناف أنفسَهم يقرون بالقياس إن اتضحت العلة، كما يفهم من بعض نصوصهم، قال ابن أمير الحاج: «وَفِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِلْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ: فَإِنْ قِيلَ لَا يَجُوزُ عِنْدَكُمْ إثْبَاتُ الْحُدُودِ بِالْقِيَاسَاتِ، فَإِنْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ قَدْ اتَّفَقَتْ عَلَى إثْبَاتِ حَدِّ الْخَمْرِ قِيَاسًا، فَهَذَا إبْطَالٌ لِأَصْلِكُمْ فِي إثْبَاتِ الْحُدُودِ قِيَاسًا، قِيلَ: الَّذِي نَمْنَعُهُ أَنْ يَبْتَدِئَ إيجَابُ حَدٍّ بِقِيَاسٍ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ التَّوْقِيفُ، فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الِاجْتِهَادِ فِي شَيْءٍ وَرَدَ فِيهِ التَّوْقِيفُ فَيُتَحَرَّى فِيهِ مَعْنَى التَّوْقِيفِ، فَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَاسْتِعْمَالُ اجْتِهَادِ السَّلَفِ فِي حَدِّ الْخَمْرِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ ضَرَبَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ ضَرَبَهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا كُلُّ رَجُلٍ بِنَعْلِهِ ضَرْبَتَيْنِ فَتَحَرَّوْا فِي اجْتِهَادِهِمْ مُوَافَقَةَ أَمْرِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلُوهُ ثَمَانِينَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَنَقَلُوا ضَرْبَهُ بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ إلَى السَّوْطِ كَمَا يَجْتَهِدُ الْجَلَّادُ فِي الضَّرْبِ وَكَمَا يَخْتَارُ السَّوْطَ الَّذِي يَصْلُحُ لِلْجِلْدِ اجْتِهَادًا. [تَنْبِيهٌ] الْكَفَّارَاتُ فِي هَذَا كَالْحُدُودِ بَلْ قِيلَ الْمُرَادُ بِهَا مَا يَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا، وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ لِلْمُتَأَمِّلِ» [التقرير والتحبير في شرح التحرير 3/ 241، ط. دار الكتب العلمية]. وبناءً على ما سبق: فالراجح من أقوال أهل العلم جوازُ إثباتِ الرخص بالقياس شريطة العلم بالعلة والتحقق منها. والله تعالى أعلم.
النظر في جريان القياس في العبادات وما يتفرع على هذا -من القضايا المهمة المترددة بين الفقه والأصول، والتي تؤثِّر على موقف الباحث من القضايا التي يتعرض لها ويحتاج فيها لإعمال القياس واعتباره أو إهماله واطراحه، وقد جرى خلاف بين العلماء هل القاعدة في أصول الأحكام أن تكون غير مُعَلَّلة ما لم يقم الدليل على كونها معللة، أو الأصل أنها مُعَلَّلة إلا لدليل مانع؟ قولان حكاهما الإمامان الدبوسي وشمس الأئمة الحنفيَين، قالا: «والأشبه بمذهب الشافعي أنها مُعَلَّلة في الأصل، إلا أنه لا بد لجواز التعليل في كل أصل من دليل يُمَيِّز» (تقويم الأدلة للدبوسي ص301، ط. دار الكتب العلمية. وأصول الفقه للسرخسي 2/144، والبحر المحيط 7/ 404، ط. الكتبي)، وقد حاول الإمام الشاطبي أن يقدِّم لنا ضابطًا لهذا الباب، فقال: «كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقًا غير مقيد ولم يُجْعَل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وُكِّلَ إلى نظر المكلف، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى، كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر في المأمورات، والظلم والفحشاء والمنكر والبغي ونقض العهد في المنهيات. وكل دليل ثبت فيها مقيَّدا غير مطلق وجُعل له قانون وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي، لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وُكل إلى نظره؛ إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلًا عن كيفياتها، وكذلك في العوارض الطارئة عليها؛ لأنها من جنسها، وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية، وهذا القسم الثاني كثير في الأصول المدنية؛ لأنها في الغالب تقييدات لبعض ما تقدم إطلاقه، أو إنشاء أحكام واردات على أسباب جزئية» (الموافقات 3/46، ط. دار المعرفة- بيروت). والمقصود بقول الفقهاء: إن الحكم المعين تعبدي، أي: لا يظهر وجه الحكمة من تشريعه غير مجرد التعبُّد وإظهار الامتثال، وقد يكون الحكم التعبدي في العبادات أو فيما ليس بعبادة في أصله؛ كما في استبراء الأمة التي اشتراها بائعها في مجلس البيع، وعادت إليه بفسخ أو إقالة قبل غيبة المشتري بها.
وعدم اهتدائنا لمعنى التشريع إنما يعني خفاء الحكمة علينا فحسب، لا أن الحكم شُرع لا لحكمة، فكل أمر تعبدي –كما يقول القرافي- معناه أن فيه معنى لم نعلمه، لا أنه ليس فيه معنى (الفروق 2/ 141، ط. عالم الكتب)، ويقول أيضًا: «لما كانت قاعدة الشرع رعاية المصالح في جانب الأوامر، والمفاسد في جانب النواهي على سبيل التفضل لا على سبيل الوجوب العقلي -كما تقوله المعتزلة- لزم أن نعتقد فيما لم نطلع فيه على مفسدة ولا مصلحة إن كان في جانب الأوامر: أن فيه مصلحة، وإن كان في جانب النواهي: أن فيه مفسدة، كأن نقول في أوقات الصلوات: إنها مشتملة على مصالح لا نعلمها، وكذلك كل تَعَبُّدِيٍّ معناه: أن فيه مصلحة لا نعلمها» (الفروق 2/ 80). ووصفُ أحد العلماء لعبادة ما بأن علة حكمها تعبدية يكون أمرًا اجتهاديًّا، فإنه قد تختلف العقول في إلحاق عبادة من العبادات بهذا القسم أو غيره، وذلك يرجع لاختلاف المدارك والأفهام، فقد يطلع عالم على شيء لم يطلع عليه غيره، وقد يهتدي إلى علة وحكمة لم يهتد إليها سواه (راجع: القياس في العبادات، لمنظور إلهي، ص308، ط. الرشد). ومتى قلنا إن حكمًا ما تعبدي، صارت القاعدة فيه أن لا يسأل عن معناه (يراجع: حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 15/71، ط. در الفكر ). والمقصود بالقياس في العبادات تعقل معناها وكون هذا المعنى هو المقصود بشرع حكم الأصل، فيُجْعَلُ ذلك المعنى المتعقل وصفا جامعًا، بحيث يصبح هو العلة التي ينبني عليها القياس، ثم بالقياس على حكم الأصل يَتِمُّ تعديته إلى الفرع -مع استكمال شروط القياس- الذي لم يُنَص على الحكم فيه، فالقياس لا يجري فيما لا يعقل معناه من العبادات وغيرها؛ لأن القياس فرْعٌ عن تعقل المعنى، فما لا يدرك معناه يصبح تعبديًّا لا يجري القياس فيه، وليس المراد بالقياس في العبادات إحداث عبادة زائدة عن العبادات الواردة، أو إثبات كيفيَّة خاصة للعبادات المشروعة، فلا يصح إثبات عبادة مبتدأة به، كصلاة سادسة أو حج آخر، فإنما يتم معرفتهما بالتوقيف لا بالرأي والاجتهاد، فإنه لا يجوز ابتداء إثبات العبادات بطريق القياس (نبراس العقول للشيخ عيسى منون ص139، ط. التضامن الأخوي)
والقياس في العبادات مختلف فيه على مذهبين: - فيرى الحنفية المنع في أصول العبادات والمقدرات، يقول الشيخ الأسمندي الحنفي: «اختلف الناس في إثبات أصول العبادات وغيرها من المقدرات كالحدود والكفارات بالقياس، فذهب الكرخي وجملة من المتكلمين إلى المنع منه، وحكاه الكرخي عن أبي حنيفة رحمه الله» (كتاب بذل النظر في الأصول 623، ط. مكتبة دار التراث). ونَسَبَ الفخرُ الرازيُّ المنعَ إلى الجُبَّائي (المحصول 5/348، ط. الرسالة). - وذهب الشافعي وأصحابه إلى جواز القياس فيما كان معقول المعنى مطلقًا سواء كان في العبادات أو غيرها، ومنع القياس في غير معقول المعنى مطلقًا، وهو مذهب جمهور الأصوليين، واختاره الإمام الرازي وأتباعه، والتاج السبكي (يُراجع: المحصول 5/348، ونهاية السول للإسنوي 1/ 357، ط. دار الكتب العلمية، وشرح المحلي على جمع الجوامع 2/257، ط. دار الكتب العلمية، وشرح الكوكب المنير 4/224، ط. العبيكان)، ولهذا يتفق الشافعية مع المانعين في أن ما كان كأعداد الركعات فغير معقول المعنى فلذلك لا يمكن استنباط علة منها، وكل ما كان غير معقول المعنى لا يصح القياس عليه لعدم معرفة العلة، فمن شرط القياس عندهم أن لا يكون المقيس عليه تعبديا، والأمور التعبدية لا يدخلها القياس. ومنشأ اختلاف العلماء حول جواز إجراء القياس في العبادات وعدمه يرجع لأمرين: الأول: اختلافهم في كون جميع العبادات وأصولها معقولة المعنى فيجوز إجراء القياس فيها، أو أن بعضها غير معقولة المعنى فلا يجوز إجراء القياس فيها؟ مع اتفاق الكل –على ما يظهر من نصوصهم– على أن معقول المعنى يجري فيه القياس، وغير معقول المعنى يمنع فيه القياس، وإنما اختلفوا في أفراد ذلك، هل هو من معقول المعنى فيجري فيه القياس، أو غير معقول المعنى فلا يجري فيه القياس. الأمر الثاني: وهو مفرَّع على الأول: هل «دلالة النص» قياسية فيقال: إن الحكمَ الثابتَ بها ثابتٌ بالقياس، أو هي لفظية فيقال: إن الحكمَ الثابتَ بها غيرُ ثابتٍ بالقياس؟ فيرى الحنفية أن دلالة النص هي: ما يَثْبُتُ بمعنى اللفظ لغةً لا اجتهادًا ولا استنباطًا بالرأي، فهي دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه، لاشتراكهما في علة الحكم التي يمكن فهمها عن طريق اللغة من غير حاجة إلى الاجتهاد الشرعي، وذلك سواء أكان المسكوت عنه مساويًا للمنصوص عليه؛ للتساوي في العلة أم أولَى بالحكم منه؛ لقوة العلة فيه. فالحنفية يرون أن الحكم الثابت بدلالة النص لم يثبت بصورة النص وذات النظم كما في عبارة النص، كما أنه ليس ثابتًا عن طريق الاجتهاد والاستنباط بالرأي ليكون ثابتًا بالقياس، وإنما ثبت من طريق علة الحكم؛ وهذا لأن المعنى المعلوم بالنص لغة بمنزلة العلة المنصوص عليها شرعًا عندهم، فهي دلالة تعتمد على معنى النص وما يُفهم منه بحسب اللغة، فهي لفظية وليست قياسية، فتَثْبُتُ أحكام العبادات بها بخلاف القياس الأصولي. وأما عند الشافعية وبعض الحنابلة فإن الحكم في المسكوت عنه يُعرف عن طريق الاجتهاد أو القياس الشرعي، لا بمجرد معرفة اللغة، والقياس معنًى يُستنبط بالرأي؛ ليتعدَّى به الحكمُ إلى ما لا نَصَّ فيه، فليس هو استنباطًا باعتبار معنى النظم لغة؛ ولهذا اختص العلماء بمعرفة الاستنباط بالرأي، وعليه فإن «دلالة النص» عندهم قياسية، فمتى ثبتت أحكام العبادات بـ«دلالة النص» يصح القول بأنها ثبتت بالقياس. وقد استدل الجمهور لإجراء القياس في العبادات إذا عُقل المعنى بأدلة كثيرة منها: 1- ما أخرجه الشيخان عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: بَعَثَنِي النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في حاجة فأجنبتُ فلم أجِدِ الماءَ، فتمرَّغتُ في الصعيد كما تتمرَّغ الدابةُ، ثم أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فذكرتُ ذلك له، فقال: «إنمَا كانَ يَكْفِيكَ أن تقول بِيدَيْكَ هكذا. ثم ضَرَب بِيدَيه الأرضَ ضَرْبةً واحدةً، ثم مَسَحَ الشمالَ على اليمين، وظاهرَ كفَّيْهِ ووجهَه». ووجه الدلالة: أن عمارًا استعمل القياسَ في العبادات حيث قاس كيفية التطهيرَ بالتراب على كيفية التطهير بالماء، فكما أن الماء يَعم البدن في الغسل من الجنابة، فكذلك يقاس عليه التراب فيُعَمم به البدن، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر على عمَّار استعماله القياس في العبادات، وإنما أخبره أن قياسه غير صحيح، والخطأ في مسألة لا يدل على بطلان القياس، بل إنه إقرار من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث لم ينكر عليه القياس في العبادات لما رأى عمارًا قاس فيها، فدل هذا على جواز القياس في العبادات؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. 2- أنه يجوز إثبات أحكام العبادات بأخبار الآحاد وكذلك يجوز إثباتها بظواهر النصوص، وإن كان طريق هذه الأدلة غلبة الظن ويجوز فيه الخطأ، فلما جاز إثبات أحكام العبادات بخبر الواحد وظواهر النصوص جاز إثباتها بالقياس؛ بجامع أن كلا منهما دليل ظني. 3- عموم أدلة حجيَّة القياس، فهي دلت على جواز القياس في جميع الأحكام الفقهية ولم تفرق بين ما يخص العبادات أو المعاملات أو غيرها، والمرجع في ذلك هو معرفة العلة التي من أجلها شرع الحكم في الأصل، فمتى عرفنا العلة في الحكم المنصوص عليه، ووجدنا هذه العلة في الفرع، فإنه يصح القياس مع استكمال شروط القياس (يُراجع: البحر المحيط للزركشي 5/129، والتقرير والتحبير لابن أمير حاج 1/109-110، ط. دار الكتب العلمية. وشرح المحلي على الجمع 2/244- 245، وشرح الكوكب المنير 3/486). وقد استدل الحنفية بما يلي: 1- العبادات مشتملة على تقديرات لا يُعقل معناها، كأعداد الصلوات والركعات وأنصبة الزكوات، فكانت من الأمور التعبدية التي لا نعلم العلة التي من أجلها شُرِعت، فلا يجري القياس فيها، فإن القياس فرع تعقل المعنى، فما لم تدرك علته لا يقاس عليه. يقول الأسمندي الحنفي: «والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه -يعني منع القياس في أصول العبادات- أن القياس إثبات الحكم بأمارة يغلب على الظن ثبوت الحكم بها إذا عرض على العقل، والعقل لا يهتدي إلى إيجاب صلاة سادسة، وإلى كون نصاب الإبل مقدرا بخمس ... فلا يمكن إثباتها بالقياس» (ص623). ويجاب عنه: بأننا لا نقيس في مقادير العبادات أو في غيرها إلا إذا علمنا العلة التي من أجلها شُرِع الحكم، فإذا علمنا العلة في الأصل، ووجدنا نفس العلة في فرعٍ -مع استكمال بقية الشروط- أتممنا عملية القياس، وأما إذا لم نعلم العلة فلا خلاف في أنه لا يجوز القياس في مثل ذلك، لأنه فَقَدَ ركنًا من أهم أركانه، وهي العلة. 2- استخدام القياس في العبادات يُثْبِت عبادة مبتدأة، مثل الصلاة بالإيماء بالحاجب، وما شابه ذلك فإنها من الأمور المهمة التي تتوفر الدواعي على نقلها، فلو كانت مشروعة لوجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيَّنها، وينقل ذلك أهل التواتر إلينا حتى يصير ذلك معلومًا لنا قطعًا، فلما لم يكن كذلك علمنا أن القول بها باطل. ويجاب عنه: بأن عدم النقل لا يدل على عدم الجواز، وكذلك فإن ما اعترضتم به منتقض بوجوب الوتر عندكم؛ حيث إن الوتر واجب عندكم مع أن وجوبه لم يعلم قطعًا (نبراس العقول للشيخ عيسى منون ص 140). 3- المقادير متساوية فلا يظهر في العقل تميز مقدار عن مقدار. ويجاب عنه: بأنا لا نجري القياس إلا إذا ظهر وجه التمييز، فإن استوت المقادير على وجه لا يترجح بعضها على بعض فلا قياس، كما قال أبو حنيفة في تقدير مسح الرأس بثلاثة أصابع قياسًا على مسح الخف. 4- إن مقادير العبادات قد شرعت لمصلحة يعلمها الله، وهي حق لله تعالى، كأعداد الصلوات وأعداد الركعات وأنصبة الزكوات، وبما أننا لا ندرك ولا نعلم المصلحة التي شرعت هذه المقادير والعبادات لها، ولا مدخل للقياس في معرفة المصالح وحقوق الله، فمِن ثَمَّ فلا يجوز إجراء القياس في مقادير العبادات. ويجاب عنه: بأن استدلالكم هذا في نفي القياس في أحكام العبادات يفضي إلى إبطال استخدام القياس في جميع الأحكام الشرعية؛ وذلك أن جميع الأحكام مبنية على المصالح التي لا يعلمها إلا الله، وقد بطل هذا الاستدلال، وأجيب عنه في أثناء الرد على منكري القياس في جميع الأحكام (يُراجع: شرح المحلي على الجمع 2/245). وعلى ذلك فتعليل قول القائل إنه لا يشرع القياس في العبادات بأن العبادات مبنية على نصوص الكتاب والسنة فلا يدخلها النظر والاعتبار؛ تعليل ضعيف؛ لأن البناء على نصوص الكتاب والسنة لا يختص بالعبادات وحدها، بل البناء عليها جارٍ في جميع الأحكام الشرعية من العبادات والمعاملات والمناكحات وغيرها، ولهذا فالاستدلال -لمنع القياس في العبادات- بكونها مبنية عليهما هو كلام ضعيف، ولا بد في كل مسألة من النظر فيها هل هي مما يعقل معناه أو مما لا يعقل معناه، ولهذا فلا بد من النظر الفقهي في كل مسألة على حدة، وجمع الأدلة الشرعية فيها، والنظر في أشباهها ونظائرها، وتدبر معناها وعلتها وحكمتها. وبناء على ما سبق فإن القياس يجري في العبادات وغيرها ما دامت معقولة المعنى واستكمل القياس أركانه وشروطه. والله تعالى أعلم.
هناك أحاديث ضعيفة تكون نصًّا في مسألة فقهية، لكنها تكون ضعيفة السند، فنجد بعض الفقهاء قد استدل بها في الباب، وهنا يأتي التساؤل: كيف يحتج الفقيه بهذا الحديث الضعيف؟ وهل يجوز أن ننسج على هذا المنوال فيحتج الفقيه والمفتي الآن بالحديث الضعيف؟ هذه المسألة تتعلق بالحديث؛ لكونه المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، لكن هذا المصدر في غالبه ظني الثبوت؛ لكون الغالب عليه هو أحاديث الآحاد وليست المتواترة. وقد قام المحدثون بوضع أسس علم الحديث، وبيَّنوا صحيحه من سقيمه، كما بيَّنوا أن الضعف ينقسم إلى مراتب متفاوتة، فليس الحكم على الحديث بالضعف - لسوء حفظ بعض رواته- كالحديث الذي حكم عليه بالضعف من أجل كذب بعض رواته! والعمل بالضعيف في فضائل الأعمال قد أفردناه بفتوى مستقلة، وأما العمل بالحديث الضعيف في الأحكام الفقهية فالمشهور بين الناس عدم العمل به مطلقًا، لكن عند التأني والرجوع إلى كلام العلماء نرى لهم تفصيلًا في ذلك. وقبل الخوض في المسألة نذكر شيئًا عن تعريف الحديث؛ ليتبين ما نتحدث عنه جليًّا للسائل وغيره، فمن تعاريف الحديث المرفوع عند المحدثين قول القاسمي [قواعد التحديث، ص60، ط. دار الكتب العلمية]: «ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قولًا أو فعلًا أو تقريرًا أو صفة». ومن تعاريف الحديث عند الأصوليين والفقهاء قول الزركشي [البحر المحيط، 6/ 6، ط. دار الكتبي]: «ما صدر من الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الأقوال والأفعال والتقرير والهم، وهذا الأخير لم يذكره الأصوليون ولكن استعمله الشافعي في الاستدلال». كما ينبغي أن نعرف ما هو الحديث الضعيف، ولأن العلماء درجوا على أن يعرفوا الحديث الصحيح والحسن ثم يعرفوا الضعيف: بأنه ما لم تجتمع فيه صفات الصحيح والحسن، فيحسن بنا أن نعرف بهذه الأنواع. أما الحديث الصحيح: فهو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذًّا ولا معللا. وأما الحديث الحسن: فهو قسمان: أحدهما: الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته، غير أنه ليس مغفلًا كثير الخطأ، ولا هو متهم بالكذب، ويكون متن الحديث قد روي مثله أو نحوه من وجه آخر، فيخرج بذلك عن كونه شاذًّا أو منكرًا. والقسم الثاني: أن يكون روايه من المشهورين بالصدق والأمانة، ولم يبلغ درجة رجال الصحيح في الحفظ والإتقان، ولا يُعدُّ ما ينفرد به منكَرًا، ولا يكون المتن شاذًّا ولا معللا. وأما الحديث الضعيف: فهو ما لم يجتمع فيه صفات الصحيح، ولا صفات الحسن المذكورة. [من تلخيص ابن كثير لمقدمة ابن الصلاح بتصرف]. وأما حكم العمل بالحديث الضعيف فالأصل فيه جواز عدم العمل به؛ لأنه لم يكن متواترًا فيفيد علمًا، ولا آحادًا صحيحًا فيفيد ظنًّا، لكن هناك حالات يمكن أن يعمل فيها الإنسان بالحديث الضعيف -لا الواهي- في الأحكام الشرعية، منها: 1) عند وجود حديث ضعيف ولا يوجد في الباب من الصحيح ما يعارضه: قال ابن النجار الحنبلي [شرح الكوكب المنير، 2/ 573، ط. مكتبة العبيكان]: «وَفِي «جَامِعِ» الْقَاضِي: أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ لا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْمَآثِم. وَقَالَ الْخَلاَّلُ: مَذْهَبُهُ -يَعْنِي: الإِمَام أَحْمَد- أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَارِضٌ قَالَ بِه. وَقَالَ فِي كَفَّارَةِ وَطْءِ الْحَائِضِ: مَذْهَبُهُ فِي الأَحَادِيثِ -وإنْ كَانَتْ مُضْطَرِبَةً وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَارِضٌ- قَالَ بِهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ: طَرِيقِي لَسْت أُخَالِفُ مَا ضَعُفَ مِنْ الْحَدِيثِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ مَا يَدْفَعُهُ». قال ابن الصلاح [مقدمة ابن الصلاح، ص36، ط. دار الفكر]: «حَكَى أَبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ مَنْدَهْ الْحَافِظُ أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدٍ الْبَاوَرْدِيَّ بِمِصْرَ يَقُولُ: «كَانَ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ كُلِّ مَنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى تَرْكِهِ». وَقَالَ ابْنُ مَنْدَه: «وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ يَأْخُذُ مَأْخَذَهُ، وَيُخْرِجُ الْإِسْنَادَ الضَّعِيفَ إِذَا لَمْ يَجِدْ فِي الْبَابِ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى عِنْدَهُ مَنْ رَأْيِ الرِّجَال». وقال علي بن حزم [المحلى، 3/ 61، ط. دار الفكر]: «وَهَذَا الْأَثَرُ (قنوت الفجر) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ فَلَمْ نَجِدْ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَيْرَهُ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ الرَّأْيِ، قَالَ عَلِيٌّ: وَبِهَذَا نَقُولُ». 2) تلقي الأمة له بالقبول: قال السخاوي [فتح المغيث بشرح ألفية الحديث، 1/ 350، ط. مكتبة السنة- مصر]: «وَكَذَا إِذَا تَلَقَّتِ الْأُمَّةُ الضَّعِيفَ بِالْقَبُولِ يُعْمَلُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، حَتَّى إِنَّهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمُتَوَاتِرِ فِي أَنَّهُ يَنْسَخُ الْمَقْطُوعَ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي حَدِيثِ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»: إِنَّهُ لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ، وَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى جَعَلُوهُ نَاسِخًا لِآيَةِ الْوَصِيَّةِ لَهُ]. 3) الاحتياط: قال السخاوي [فتح المغيث بشرح ألفية الحديث، 1/350]: «أَوْ كَانَ فِي مَوْضِعِ احْتِيَاطٍ؛ كَمَا إِذَا وَرَدَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِكَرَاهَةِ بَعْضِ الْبُيُوعِ أَوِ الْأَنْكِحَةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ -كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ- أَنْ يُتَنَزَّهَ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ، وَمَنَعَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ الْعَمَلَ بِالضَّعِيفِ مُطْلَقًا. وَلَكِنْ قَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي عِدَّةٍ مِنْ تَصَانِيفِهِ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ وَنَحْوِهَا خَاصَّةً». قال السيوطي [تدريب الراوي، 1/ 351، ط. دار طيبة]: «وَيُعْمَلُ بِالضَّعِيفِ أَيْضًا فِي الْأَحْكَامِ، إِذَا كَانَ فِيهِ احْتِيَاطٌ». 4) الاستحباب في الفضائل: قال ابن الهمام [فتح القدير، 2/ 133، دار الفكر]: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ عَلِيٍّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّ طُرُقَ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَثِيرَةٌ، وَالِاسْتِحْبَابُ يَثْبُتُ بِالضَّعْفِ غَيْرِ الْمَوْضُوعِ». والدليل على ذلك كله: أن الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف إنما هو في ظاهر الأمر فقط، فقد وضع العلماء تعريفات لكل نوع من الأحاديث، فمتى انطبق التعريف على حديث أخذ حكمه في الظاهر. قال ابن الصلاح [مقدمة ابن الصلاح ص13]: «وَمَتَى قَالُوا: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ اتَّصَلَ سَنَدُهُ مَعَ سَائِرِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، إِذْ مِنْهُ مَا يَنْفَرِدُ بِرِوَايَتِهِ عَدْلٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَلَقِّيهَا بِالْقَبُولِ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالُوا فِي حَدِيثٍ: إِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ قَطْعًا بِأَنَّهُ كَذِبٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ صِدْقًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ إِسْنَادُهُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَاللهُ أَعْلَمُ». فلما كان الأمر كذلك على الاحتمال، وخلا الباب الفقهي من الحديث الصحيح المعارض للضعيف، وكان هذا الضعيف وفيه احتمال الصحة مع عمل بعض العلماء بمعناه؛ دلَّ هذا على صحة المعنى عند القائل به، بمعنى أن هذا الرأي الفقهي كان سيقول به بعض العلماء، ولو لم يرد هذا الضعيف. ومما تقدم يتبين أن الأصل في الحديث الضعيف عدم جواز العمل به في الأحكام الشرعية، ومع هذا فإن هناك حالات يمكن الأخذ فيها بالحديث الضعيف في الأحكام الشرعية بالضوابط والشروط التي تقدم ذكرها. والله تعالى أعلم.
************************************************ المفهوم السابع والعشرون: مفهوم عموم البلوى
يعد تعبير "عموم البلوى" من المصطلحات المنتشرة في كتب الفقه والأصول، وعموم البلوى أمر مؤثِّرٌ في الأحكام؛ حيث يتم اعتباره كأحد أسباب التخفيف والتيسير ورفع الحرج والمشقة عن العباد، فما المقصود بهذا المفهوم؟ تعريف عموم البلوى: العموم من عَمَّ، ومن معانيها: الشمول والجمع، يقال: عَمَّ الشيء يعم عمومًا: شمل الجماعة، يقال: عمَّهم بالعطية، أي خَيِّرٌ يعُمُّ القوم بخيره وعقله(1). والبلوى من الابتلاء والبلاء، ومن معانيها: الاختبار والمحنة والامتحان(2). وعموم البلوى كمركب اصطلاحي يقصد به في عرف الفقهاء والأصوليين: شيوع المحظور شيوعًا يعْسُر على المكلف معه تحاشيه(3)، وبتعبير آخر: هوشيوع البلاء بحيث يصعب على المرء التخلص أو الابتعاد عنه(4)، فالمقصود بعموم البلوى: انتشار أمر يكثر وقوعه بين الناس، يصعب الاحتراز عنه، مما يقتضي التيسير والتخفيف. قال الزركشي في البحر المحيط: قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه: ومعنى قولنا تعمُّ به البلوى أن كل أحد يحتاج إلى معرفته(5)، ومعنى هذا أن جميع المكلفين - خاصِّهم وعامِّهم - يحتاجون إلى معرفة حكم تلك الحادثة للعمل به، إذ إنهم مكلفون فيها بالفعل أو الترك(6). أدلة اعتبار عموم البلوى سببًا للتيسير: ومن الأدلة على اعتبار عموم البلوى في نظر الشارع حديث كبشة بنت كعب بن مالك -وكانت تحت ابن أبي قتادة-أن أبا قتادة، دخل فسكبت له وضوءًا، فجاءت هِرَّة فشربت منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. وجه الدلالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر شيوع الابتلاء بملابسة الهِرَّة -حينما وصفها بالطواف - أمرًا يُخَفَّفُ عنده، فلا يقال بنجاسة ما تلابسه. وحين سألت امرأةٌ أمَّ سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالت: «إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي، وَأَمْشِي فِي الْمَكَانِ الْقَذِرِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُطَهِّرُه مَا بَعْدَهُ» رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. وجه الدلالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر تكرر ملابسة ثياب المرأة للمكان القذر أمرًا يخفف عنده؛ إذ تعتبر ملابسة الثياب للمكان الطاهر بعد ذلك مطهرًا لها، ولو قيل بعد طهارة ثياب النساء حينئذ لأدَّى إلى إلحاق المشقَّة بعموم النساء(7). شروط اعتبار عموم البلوى: اختلف العلماء في الشروط التي تعدُّ سببًا في اعتبار عموم البلوى، ومما ذكروه -على اختلاف مذاهبهم فيها- ما يلي: 1. أن يكون عموم البلوى متحققًا لا متوهمًا، بحيث يكون العمل في الواقعة مما يَعْسُرُ الاحتراز منه أو الاستغناء عنه، كنظر الطبيب إلى عورة المريض، يكون إلى الموضع الذي يحتاج إلى النظر إليه فقط لا يتعداه إلى غيره مما لا تدعو إليه الضرورة، وأن يكون وقوعه عامًّا للأشخاص وإن لم يكن متحققًا لجميع المكلفين ما يكفي لاعتباره عذرًا للجميع. 2. أن يكون عموم البلوى من طبيعة الشيء وشأنه وحاله، لا من تساهل المكلف في التلبس بذلك الشيء، فقد ذكر النووي أنه يشترط للعفو عن النجاسة الجافة إذا دُلِّكَتْ أن تكون مُلابَسَتُهَا بالمشْي من غير تعمُّد، فلو تعمَّد يجب عليه غسل الشيء ولا يجزئه الدَّلْك والفَرْك. 3. ألا يقصد التلبُّس بما تعمُّ به البلوى بقصد الترخُّص، كما إذا شربت المرأة دواء مباحًا من أجل نزول دم الحيض، لم يَجُزْ لها الفطر عند الحنابلة. 4. ألا يكون عموم البلوى عبارة عن معصية لأن الرُّخَصَ لا تُنَاط بالمعاصي، قال تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة:173] فجعل رخصة أكل الميتة منوطة بالاضطرار حال كون المضطر غير باغ ولا عاد. 5. أن يكون الترخص في حال عموم البلوى مقيَّدًا بتلك الحال، ويزول بزواله، فما جاز لعذر بطل بزواله(8). وهناك عِدَّة قواعد متصلة بعموم البلوى، مثل: "العادة محكمة"، و"لا ضرر ولا ضرار"، و" المشقة تجلب التيسير"، و"إذا ضاق الأمر اتسع وإذا اتسع ضاق"، و"الضرورات تقدَّر بقدرها"، و"إذا زال المانع عاد الممنوع" وغيرها من القواعد الفقهية التي تضبط التعامل مع الحالات التي تَعْتَرِي المرء في حياته ومعاشه. تطبيقات فقهية لعموم البلوى: ومن الرُّخَصِ التي شرعت بسبب العسر وعموم البلوى ما ذكره السيوطي وابن نجيم من جواز الصلاة مع النجاسة المعفوِّ عنها، كدم القروح والدمامل والبراغيث، وطين الشَّارع وذرق الطيور إذا عمَّ في المساجد والمطاف، وما لا نفس له سائلة، وأثر نجاسة عَسُرَ زوالُه، وأمثالها وهي كثيرة مفصَّلة في كتب الفقه، ومن هذا القبيل ما ذكره الفقهاء من جواز عقد الاستصناع -وهو عقد مقاولة مع أهل الصَّنْعَة على أن يعمل شيئًا - مع أنَّه يخالف القواعد؛ لأنَّه عقد على المعدوم، إلا أنَّه أُجيزَ للحاجة الماسَّة إليه وفي منعه مشقَّة وإحراج(9). ومن الأمور المستحدثة تلك المخترعات والتقنيات التي ظهرت حديثًا، والتي بات من الصعوبة بمكان الاستغناء عنها، وتتعقَّدُ الحياة بالامتناع عن استخدامها، كالمراصد التي تُرَى بها أهلة الشهور وتحديد مواقيت الصلاة بواسطة الأجهزة الحديثة، الأمر الذي يُغني معظم المسلمين عن الرؤية بالعين المجرَّدة لتحديد مواقيت الشهور والصلاة، والآلات التي تستخدم في التواصل بين البشر، فإنها صارت تستخدم في إجراء التعاقدات بصورة غير مباشرة، مما قد يترتب عليه وجود احتمالات للغرر، فضلًا عن عدم اتحاد المجلس في العقد كما نَصَّ الفقهاء، فهذه كلها تندرج تحت باب ما عَمَّتْ به البلوى، ويجوز التعامل بها ما دامت يُرَاعَى فيها الضوابط الشرعية. عموم البلوى والإفتاء: لا تخفى الحاجة الملحة للمفتي في إدراكه لمسألة عموم البلوى، والتعرُّفِ على شروطها، ومتى يتمُّ اعتبارها ومتى لا يتم، وهذا جزء أصيل من تكوين عقلية المفتي وإدراكه للواقع حتى يستطيع التمييز بين الأمور التي تُعَدُّ مما عَمَّت به البلوى، وتفيد القواعد الشرعية المرعية التخفيف بسببها، فيُفتي بما يفيد التخفيف، والأمور التي لم تتوافر فيها شروط اعتبار عموم البلوى موجبة للتخفيف، فلا يتهاون في الحكم على الواقعة بما يؤدي إلى التفريط في أحكام الشرع الشريف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تاج العروس، 33/ 149. (2) تاج العروس، 37/ 206 ، 207. (3) قطب مصطفى سانو، معجم مصطلحات أصول الفقه، ص: 299، ط دار الفكر. (4) وهبة الزحيلي، نظرية الضرورة الشرعية مقارنة مع القانون الوضعي، ص: 123، ط مؤسسة الرسالة. (5) الزركشي، البحر المحيط، ج 4، ص: 347، ط وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - الكويت. (6) مسلم الدوسري، عموم البلوى .. دراسة نظرية تطبيقية، ص: 48، ط مكتبة الرشد - الرياض. (7) الدوسري، مرجع سابق، ص: 326 - 330. (8) الدوسري، مرجع سابق، ص: 338 - 352، بتصرف واختصار. (9) الموسوعة الفقهية الكويتية: مصطلح: عموم البلوى.
******************************************* المفهوم الثامن والعشرون: مفهوم الاستدلال بالقواعد الفقهية
هناك بعض النصوص الشرعية التي وردت عامة، وورد من النصوص الأخرى ما يخصصها، وهناك نصوص شرعية وردت مطلقة فقيدتها نصوص أخرى، وقد تكلم العلماء فيما يخصص العام ويقيد المطلق، وذكروا ذلك في مباحث أصول الفقه وغيرها، وقد ذكروا ما يخصص ويقيد النصوص؛ كالقرآن والسنة والإجماع والقياس، على تفصيل في ذلك، فهل ذكر بعض أهل العلم أن القواعد الفقهية تخصص وتقيد النصوص، وإن لم يكن هناك ذكر لذلك، فما موقف دار الإفتاء من ذلك؟ في السطور الآتية نعالج هذه القضية فنقول: اختلف الفقهاء في تعريف القاعدة الفقهية بناء على اختلافهم في مفهومها: هل هي قضية كلية أو قضية أغلبية؟ ونحن نختار لكل مدرسة تعريفا من تعريفاتها، فمن تعريفات المدرسة الأولى: هي الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة، تفهم أحكامها منه. (ينظر: الأشباه والنظائر للسبكي 1/11، ط. دار الكتب العلمية). ومن تعريفات المدرسة الثانية: هي حكم أكثري لا كلي، ينطبق على أكثر جزئياته؛ لتعرف أحكامها منه. (ينظر: غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر للحموي 1/15، ط. دار الكتب العلمية). والظاهر أن الباعث لمن يعرفها بأنها أكثرية هو: أن كثيرا من قواعد الفقه لها صور مستثناة منها، ولا ينطبق عليها حكمها، ويلحظ هذا الأمر من يطالع كتب قواعد الفقه. (مقدمة تحقيق قواعد الحصني للدكتور/ الشعلان 1/23، ط. مكتبة الرشد). ولكن هذا الاستثناء وعدم الاطراد لا ينقض كلية تلك القواعد ولا يقدح في عمومها؛ لأن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار القطعي، كما أن الكليات الاستقرائية صحيحة وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات. (ينظر: موسوعة القواعد الفقهية للدكتور/ محمد صدقي الغزي 1/32، ط. مؤسسة الرسالة، والموافقات للشاطبي 2/53، ط. دار ابن عفان). وكون هذه القواعد أغلبية لا يغض من قيمتها العلمية وعظيم موقعها في الفقه، خاصة ضبطها لفروع الأحكام العلمية بضوابط تبين في كل زمرة من هذه الفروع وحدة المناط، وجهة الارتباط برابطة تجمعها وإن اختلفت موضوعاتها وأبوابها، مما يمهد بينها طريق المقايسة والمجانسة. (ينظر: مقدمة شرح القواعد الفقهية للزرقا ص35). ولذا كان من أهم فوائد علم القواعد الفقهية: ضبط الأمور المنتشرة المتعددة ونظمها في سلك واحد؛ مما يمكن من إدراك الروابط بين الجزئيات المتفرقة، ويزود المطلع عليها بتصور سليم يدرك به الصفات الجامعة بين الجزئيات. (القواعد الفقهية للدكتور/ يعقوب الباحسين ص114). ويمكن تقسيم القواعد الفقهية بحسب مصادرها إلى قسمين: القسم الأول: قواعد جاء بها نص شرعي: قد يكون بلفظه مثل: ((الخراج بالضمان))، فهو نص حديث شريف أخرجه أصحاب السنن الأربعة. وقد يكون بإنشاء لفظها من ظاهر النص، دون حاجة إلى استقراء واستنباط، مثل: الميسور لا يسقط بالمعسور، فهي قاعدة مأخوذة من الحديث الشريف: ((وإن أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)). (متفق عليه). القسم الثاني: قواعد خرجها العلماء من استقراء الأحكام الجزئية: وهي التي تتبعها العلماء في أبواب مختلفة، وكثير منهم صاغوها في عبارات موجزة سلسلة، مثل: (الرضا بالشيء رضا بما يتولد منه)، و (المشغول لا يشغل). (الأشباه والنظائر للسيوطي ص28،16). وأما تقسيمها من حيث الشمول والسعة، فتنقسم إلى أربعة أقسام: القسم الأول: القواعد الكبرى التي تشتمل على مسائل كثيرة، وأبواب متعددة كادت أن تستوعبها. وهي القواعد الخمس التي قيل: إن الفقه مبني عليها، وهي: الأمور بمقاصدها، واليقين لا يزول بالشك، والمشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، والعادة مُحكَّمة. القسم الثاني: قواعد قريبة من السابقة في شمولها؛ إلا أنها أقل منها، وقد ذكر منها السيوطي في «الأشباه والنظائر» أربعين قاعدة، منها: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وإذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام، وأغلبها يذكر لها السيوطي أدلتها مثل القاعدة الأولى منها: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. قال السيوطي: «الأصل في ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم، نقله ابن الصباغ. وفي القاعدة الثالثة: (الإيثار في القربات مكروه، وفي غيرها محبوب)، قال تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}. القاعدة الثامنة والثلاثون منها: الميسور لا يسقط بالمعسور، قال ابن السبكي: وهي من أشهر القواعد المستنبطة من قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)). اهـ. القسم الثالث: قواعد مختلف فيها في المذهب، كالقواعد العشرين التي ذكرها السيوطي في الكتاب الثالث من الأشباه والنظائر، وهو غالبا يوردها بصيغة الاستفهام، مثل: هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟ القسم الرابع: قواعد مشتملة على مسائل متعددة بأبواب محدودة أو معينة من أبواب الفقه، والكثير منها يعد ضابطا، وهو: ما اختص بباب واحد وقصد به نظم صور متشابهة، وغالبا ما يختص بمذهب معين. وأما تقسيمها من حيث كونها أصلية أو تابعة فتنقسم إلى قسمين: القسم الأول: قواعد أصلية، وهي التي لا تكون تابعة لقاعدة أخرى، مثل القواعد الخمس الكبرى، وكذا القواعد الأربعون التي ذكرها السيوطي، والتي تقدمت الإشارة إليها. القسم الثاني: قواعد تابعة، وهي التي تكون تابعة لقاعدة أخرى، وتكون تبعيتها من وجهين: أ) أن تكون متفرعة من أكبر منها مثل: الأصل براءة الذمة، فهي مندرجة في قاعدة: اليقين لا يزول بالشك. ب) أن تكون قيدا لقاعدة أخرى، مثل: الضرر لا يزال بالضرر؛ فإنها قيد لقاعدة: الضرر يزال. (ينظر: مقدمة تحقيق قواعد الحصني 1/30، وموسوعة القواعد الفقهية للغزي 1/32، ط. مؤسسة الرسالة، والقواعد الفقهية ليعقوب الباحسين ص118). والحكم في هذه المسألة أنه يجوز تخصيص النصوص وتقييدها بالقواعد الفقهية إجمالا، وإنما قيدنا الجواز بالإجمال لأن واقع الأمر يبين أن القواعد الفقهية ليست على وتيرة واحدة، فبعضها أصله نص شرعي، وبعضها مأخوذ من معنى نص أو أكثر، وبعضها كلي لا يخرج عنه إلا القليل من الفروع، وبعضها مختلف فيه كما تقدم، وبعضها لا يندرج تحته إلا فروع معدودة؛ كقاعدة: من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه، فقد قال السيوطي بعد ذكرها: «تنبيه: إذا تأملت ما أوردناه علمت أن الصور الخارجة عن القاعدة أكثر من الداخلة فيها. بل في الحقيقة: لم يدخل فيها غير حرمان القاتل الإرث». (الأشباه والنظائر ص153). كما أن النص الذي نريد تخصيصه لا بد أن يكون قابلًا للتخصيص، فإن لم يكن قابلا للتخصيص فلا يخصص بالقواعد الفقهية، ولا بغيرها. ومن الأدلة على ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا الأزرق بن قيس، قال: كنا بالأهواز نقاتل الحرورية، فبينا أنا على جرف نهر إذا رجل يصلي، وإذا لجام دابته بيده، فجعلت الدابة تنازعه وجعل يتبعها -قال شعبة: هو أبو برزة الأسلمي- فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا الشيخ، فلما انصرف الشيخ، قال: إني سمعت قولكم «وإني غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست غزوات - أو سبع غزوات - وثماني وشهدت تيسيره»، وإني إن كنت أن أراجع مع دابتي أحب إلي من أن أدعها ترجع إلى مألفها فيشق علي. ثم أخرجه البخاري من رواية الأزرق بن قيس، قال: كنا على شاطئ نهر بالأهواز، قد نضب عنه الماء، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس، فصلى وخلى فرسه، فانطلقت الفرس، فترك صلاته وتبعها حتى أدركها، فأخذها ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجل له رأي، فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ، ترك صلاته من أجل فرس، فأقبل فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إن منزلي متراخ، فلو صليت وتركته، لم آت أهلي إلى الليل، وذكر أنه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم فرأى من تيسيره. ووجه الدلالة من الحديث أن الصحابي أبا برزة رضي الله عنه لما ذمه الخوارج ودعَوا عليه؛ لتحركه في الصلاة، وهو مأمور بالخشوع فيها، قابل هذا العموم الوارد في الباب بقاعدة فقهية قد استفادها من مشاهداته لأفرع كثيرة من تيسير النبي صلى الله عليه وسلم، فهو لم يستدل بحديث في الباب على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل بدابة في صلاته مثل ما فعل هو، بل أوضح أنه باستقرائه لأحواله استنبط قاعدة: التيسير مطلب شرعي، حيث قدمه أو خصص به مسألة الخشوع، وإن كان قد خرج من الصلاة كما هو ظاهر الرواية الثانية فقد خصص بها قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد:33]، ولا يقال: لعله خصصها بما خصصها به الشافعية بعد ذلك بقوله تعالى: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل﴾ [التوبة: 91]، لأنه صرح بدليله ولم يسكت حتى يتطرق إلينا هذا الاحتمال. وقد ورد تخصيص النص بقاعدة فقهية في ثنايا كلام أهل العلم، مما يدل على صحة ما ذكرنا. ففي حديث الصحيحين عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده». قال ابن قدامة: «وقد روى أبو حفص عمر بن المسلم العُكْبَري في الخبر زيادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: فإن أدخلها قبل الغسل أراق الماء. ويحتمل ألا تزول طهوريته ولا تجب إراقته ؛ لأن طهورية الماء كانت ثابتة بيقين، والغمس المحرم لا يقتضي إبطال طهورية الماء ؛ لأنه إن كان لوهم النجاسة، فالوهم لا يزول به يقين الطهورية؛ لأنه لم يزل يقين الطهارة، فكذلك لا يزيل الطهورية، فإننا لم نحكم بنجاسة اليد ولا الماء؛ ولأن اليقين لا يزول بالشك، فبالوهم أولى». (المغني 1/71، ط. مكتبة القاهرة). وفي حديث أبي داود عن البراء بن عازب، قال: كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدت فيه، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: «فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل». قال السيوطي: «القاعدة السادسة العادة مُحكَّمة... وفي إرسال المواشي نهارا وحفظها ليلا، ولو اطردت عادة بلد بعكس ذلك، اعتبرت العادة في الأصح». (الأشباه والنظائر للسيوطي ص89). وفي حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره»، ثم يقول أبو هريرة: «ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمِيَنَّ بها بين أكتافكم». قال الشيخ عبد الرحمن آل بسام عند شرحه: «وإن كان ثَم حاجة لصاحب الخشب، وليس على صاحب الجدار ضرر من وضع الخشب، فيجب على صاحب الجدار أن يأذن له في هذا الانتفاع الذي ليس عليه منه ضرر مع حاجة جاره إليه. ويجبره الحاكم على ذلك إن لم يأذن. فإن كان ثَم ضرر، أو ليس هناك حاجة، فالضرر لا يزال بالضرر». (تيسير العلام شرح عمدة الأحكام ص521، ط. مكتبة الصحابة). وقد اختلفت المذاهب فيها، وهذه بعض استخدامات العلماء في كتب الفقه وشروح الحديث للقواعد الفقهية في تخصيص عموم النصوص، وهي أبلغ في الاستدلال؛ إذ قد يذكر أحيانا كلام لا ينهض عن كونه نظريا لا يرقى للعمل به. ويمكن مناقشة ما سبق بأن الأدلة الشرعية تتكون من النصوص الشرعية وغيرها، والنصوص الشرعية من القرآن والسنة بالنسبة للاستدلال: لهما الترتيب في الشرف، وليس في القوة، لما قد يعتري النص من الضعف من حيث الثبوت؛ كالقراءة الشاذة والحديث ضعيف السند، أو من حيث الدلالة؛ كالنص المنسوخ، بخلاف الإجماع. والقواعد الفقهية فيها قواعد عامة كلية، تعتمد على نصوص شرعية هي إلى الإجماع أقرب، فهذه لا شك أنه يخصص بها النص. كما أن هناك قواعد دون السابقة، لكن أكثرها لها أدلة مختلفة من الكتاب أو السنة أو الإجماع. قال الطوفي: «فلنتكلم على أصول الفقه -أصلًا بعد أصل- على ترتيبها في الشرف لا في القوة، فهي في الشرف: الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع، لأن الكتاب كلام الله سبحانه وتعالى، وهو أجل وأشرف وأعظم من النبي الذي السنة كلامه، والنبي صلى الله عليه وسلم أشرف من المجتهدين الذين الإجماع هو اتفاقهم. وأما في القوة، فالإجماع، ثم الكتاب، ثم السنة، لأن الإجماع لا ينسخ، بخلاف الكتاب والسنة، فإنهما ينسخان، فيجوز أن الآية أو الخبر المعارض لإجماع يكون منسوخا». (شرح مختصر الروضة 1/111، ط. مؤسسة الرسالة). كما أن الأصل في العام أنه مخصَّص، ويجوز إخراج كثير من أفراده بالتخصيص، فإذا قابل النص العام -الذي بهذه المثابة- بقواعد تحتها أفراد أكثر من أفراده فلا شك أنه جدير بتخصيص هذا العام الذي يكاد أن يفقد لقبه. قال ابن النجار: « لا عامَّ إلا وطَرَقَه التخصيصُ، إلا مواضع يسيرة. ويجوز التخصيص «ولو لعامٍّ مؤكَّد»؛ إذ تأكيده لا يمنع تخصيصه على أصح قولي العلماء، بدليل قوله تعالى: ﴿فسجد الملائكة كلهم أجمعون 30 إلا إبليس﴾ [الحجر: 30- 31] إذا قدر متصلا، وفي الحديث: ((فأحرموا كلهم إلا أبا قتادة)). ويجوز التخصيص مطلقا «إلى أن يبقى واحد» فقط من أفراد العامِّ، قاله أكثر أصحابنا وغيرهم... وما في المتن هو الصحيح من مذهب الإمام أحمد رحمه الله وأصحابه. قال ابن مفلح: يجوز تخصيص العامِّ إلى أن يبقى واحد عند أصحابنا. قال الحلواني: هو قول جماعة. وكذا قال ابن قاضي الجبل. قال ابن برهان: هو المذهب المنصوص. قال القاضي عبد الوهاب: هو قول مالك والجمهور. وحكى الجويني إجماع أهل السنة على ذلك في «من» و «ما» ونحوهما». (شرح الكوكب المنير 3/273، ط. مكتبة العبيكان). أما لماذا لم يذكر العلماء «القواعد الفقهية» في مخصِّصات العام في كتب الأصول، فالجواب: أن القواعد الفقهية ليست كلها على وتيرة واحدة، كما تقدم، فمن ثم لا يستطيع الإنسان أن يحكم عليها بحكم كلي. ثم إن كانت القاعدة تستند على نص شرعي، فالاستدلال يكون بالنص؛ ليكون أوضح في القبول والرد، مثل تخصيص الكتاب بخبر الواحد، هو واضح بالنسبة لكلام أهل العلم فيه، بخلاف القاعدة الفقهية التي قد لا يعلم مصدرها إلا بعد البحث الشديد. كما أن المباحث القديمة كلها تتحدث عن قوائم علمية معينة، ولذا يأتي النقاش في فلكها. كذلك فالمجتهد المطلق لا يحتاج إلى معرفة الفروع الفقهية؛ لأنه مجتهد، فلذلك لا يلتفت إلى القواعد الفقهية ليخصص بها العام، بل من الناحية العملية لا يكاد هذا يحدث؛ فإن الذين يضعون القواعد الفقهية إنما هم أتباع المذهب بعد رحيل صاحبه بزمن غير قصير. أما بخصوص تقييد المطلق بالقواعد الفقهية، فالأصل فيه أن ما ذكر هناك يذكر هنا أيضا؛ كما صرح به كثير من أهل الأصول في كتبهم. قال الآمدي: «وإذا عُرف معنى المطلق والمقيَّد، فكل ما ذكرناه في مخصصات العموم من المتفق عليه، والمختلف فيه، والمزيف، والمختار؛ فهو بعينه جارٍ في تقييد المطلق، فعليك باعتباره ونقله إلى هاهنا». (الإحكام في أصول الأحكام 3/4، ط. المكتب الإسلامي، ونحوه في إرشاد الفحول 2/10، ط. دار الكتاب العربي). وبناءً عليه: فإنه يجوز تخصيص النصوص وتقييدها بالقواعد الفقهية الخمس التي ترجع إليها جميع مسائل الفقه، كذلك القواعد الكلية التي يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية، وأصلها أربعون قاعدة؛ وكثير منها له أدلة شرعية واضحة منصوص عليها، وقد ذكرنا أمثلة منها. لكنْ هذه القواعد الأربعون ليست على مستوى واحد من القوة، بل بعضها لم يندرج تحته إلا فرع واحد -كما تقدم- ولذا فالقول في هذه الأربعين هو أن يخصص بالقوي منها فقط، وهي ما يستند إلى نصوص شرعية أو إجماع. ثم إنما يُخصَّص النصُّ العامُّ الذي يقبل التخصيص. والله تعالى أعلم.
******************************************* المفهوم التاسع والعشرون: مفهوم البدعة الحسنة
هل هناك بدعة حسنة في الدين، إم إن كل بدعة سيئة محرمة؟ لمعرفة معنى البدعة ومفهومها الصحيح لا بد أن نتعرف على معناها في اللغة، وكذلك معناها في الاصطلاح الشرعي؛ حتى نتوصل إلى جواب السؤال السابق، ونبدأ بالمعنى اللغوي. فالبدعة في اللغة: هي الحَدَث، وما ابْتُدِعَ من الدِّين بعد الإِكمال. قال ابن السِّكِّيت: البِدْعةُ كلُّ مُحْدَثةٍ. وأَكثر ما يستعمل المُبْتَدِعُ عُرْفًا في الذمِّ. وقال أَبو عَدْنان: المبتَدِع الذي يأْتي أَمْرًا على شَبَهٍ لم يكن ابتدأَه إِياه. وفلان بِدْعٌ في هذا الأَمر أَي: أَوَّلٌ، لم يَسْبِقْه أَحد. ويقال: ما هو منِّي ببِدْعٍ وبَديعٍ... وأَبْدَعَ وابْتَدعَ وتَبَدَّع: أَتَى بِبدْعةٍ، قال الله تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا﴾ [الحديد: 27]. وبَدَّعه: نسَبه إِلى البِدْعةِ. واسْتَبْدَعَه: عدَّه بَديعًا. والبَدِيعُ: المُحْدَثُ العَجيب. والبَدِيعُ: المُبْدِعُ. وأَبدعْتُ الشيء: اخْتَرَعْتُه لا على مِثالٍ(1). معنى البدعة شرعًا: للعلماء في تعريف البدعة شرعًا مسلكان: المسلك الأول: وهو مسلك الإمام العز بن عبد السلام؛ حيث اعتبر أن ما لم يفعله النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بدعة، وقسَّمها إلى أحكام، حيث قال في قواعد الأحكام في مصالح الأنام(2): "البدعة فِعْلُ مَا لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي منقسمة إلى: بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك: أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة" اهـ. وأكد الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني هذا المعنى؛ حيث قال في فتح الباري(3): "وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعةً، لكن منها ما يكون حسنًا، ومنها ما يكون بخلاف ذلك" اهـ. والمسلك الثاني: جعل مفهوم البدعة في الشرع أخص منه في اللغة، فجعل البدعة هي المذمومة فقط، ولم يسم البدع الواجبة والمندوبة والمباحة والمكروهة بدعًا كما فعل الإمام العز بن عبد السلام، وإنما اقتصر مفهوم البدعة عنده على المحرَّمة، وعلى ذلك جماهيرُ الفقهاء، وممن ذهب إلى ذلك الإمامُ ابن رجب الحنبلي، ويوضح هذا المعنى فيقول في جامع العلوم والحكم(4): "المراد بالبدعة ما أُحْدِثَ ممَّا لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه، فأمَّا ما كان له أصلٌ مِنَ الشَّرع يدلُّ عليه، فليس ببدعةٍ شرعًا، وإنْ كان بدعةً لغةً" اهـ. وفي الحقيقة فإن المسلكين اتفقا على حقيقة مفهوم البدعة المذمومة شرعًا، وإنما الاختلاف في المدخل للوصول إلى هذا المفهوم المتفق عليه، وهو أن البدعة المذمومة التي يأثم فاعلها شرعًا هي التي ليس لها أصلٌ في الشريعة يدل عليها، وهي المرادة من قوله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما أخرجه مسلمٌ في صحيحه عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». وكان على هذا الفهم الواضح الصريح أئمة الفقهاء وعلماء الأمة المتبوعون، فقد روى أبو نعيم في الحلية، والبيهقي في مناقب الشافعي (5) عن الإمام الشافعي -رضي الله عنه- أنه قال: "المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: ما أحدث مما يخالف كتابًا أو سُنَّة أو أثرًا أو إجماعًا، فهذه بدعة الضلالة، والثاني: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة". وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي -رضي الله عنه- في الإحياء (6): "ليس كل ما أبدع منهيًّا عنه، بل المنهيُّ عنه بدعةٌ تضاد سنةً ثابتةً، وترفع أمرًا من الشرع" اهـ. وقد نقل الإمام النووي -رحمه الله- عن سلطان العلماء الإمام عز الدين بن عبد السلام ذلك، فقال في الأذكار(7): "قال الشيخ الإمام المجمع على جلالته وتمكُّنه من أنواع العلوم وبراعته، أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام -رحمه الله ورضي عنه- في آخر كتاب القواعد: البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومباحة ... إلخ" اهـ. وقال في حديثه عن المصافحة عقب الصلاة: "واعلم أن هذه المصافحة مستحبةٌ عند كل لقاء، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له في الشرع على هذا الوجه، ولكن لا بأس به، فإن أصل المصافحة سنة، وكونهم حافظوا عليها في بعض الأحوال، وفرطوا فيها في كثير من الأحوال أو أكثرها، لا يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها" اهـ. وقال ابن الأثير في النهاية (8): "البدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسولُه -صلى الله عليه وآله وسلم- فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعًا تحت عموم ما ندب إليه وحض عليه فهو في حيز المدح، وما لم يكن له مِثال موجود كنَوْع من الجُود والسَّخاء وفِعْل الـمعروف، فهو من الأفعال المحمودة. ولا يجوز أَن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به؛ لأَن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قد جعل له في ذلك ثوابًا، فقال: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا». وقال في ضدِّه: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا»، وذلك إِذا كان في خلاف ما أَمر الله به ورسوله، ومن هذا النوع قول عمر -رضي الله عنه-: "نعمتِ البِدْعةُ هذه". لمَّا كانت من أَفعال الخير وداخلة في حيِّز المدح، سَماها بدعة ومدَحَها؛ لأَنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يَسُنَّها لهم، وإِنما صلَّاها لَيالِيَ ثم تركها ولم يحافظ عليها ولا جَمَعَ الناس لها، ولا كانت في زمن أَبي بكر، وإِنما عمر -رضي الله عنه- جَمَعَ الناسَ عليها وندَبهم إِليها، فبهذا سماها بدعة، وهي على الحقيقة سنَّة؛ لقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي»، وقوله: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ»، وعلـى هذا التأويل يُحمل الحديث الآخَر: «كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ». إنما يريد ما خالَف أُصولَ الشريعة، ولم يوافق السنة" اهـ. وضرب العلماء أمثلةً للبدع التي تعتريها الأحكامُ التكليفيةُ؛ فالبدعة الواجبة: كالاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك واجبٌ؛ لأنه لا بدَّ منه لحِفْظِ الشريعة، وما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجبٌ، والبدعة المحرمة من أمثلتها: مذهب القدرية والجبرية والمرجئة والخوارج، والبدعة المندوبة: مثل إحداث المدارس، وبناء القناطر، ومنها صلاة التراويح جماعة في المسجد بإمام واحد، والبدعة المكروهة: مثل زخرفة المساجد، وتزويق المصاحف، والبدعة المباحة: مثل المصافحة عقب الصلوات، ومنها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس، واستدلوا لرأيهم في تقسيم البدعة إلى الأحكام الخمسة بأدلة منها: أ- قول سيدنا عمر -رضي الله عنه- في صلاة التراويح جماعة في المسجد في رمضان: " نعمت البدعة هذه". فقد روى البخاري في صحيحه عن التابعي الجليل عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- ليلةً في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئٍ واحد لكان أمثلَ، ثم عزم فجمعهم على أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: "نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون" يريد آخر الليل. وكان الناس يقومون أوله. ب- تسمية ابن عمر -رضي الله عنهما- صلاةَ الضحى جماعةً في المسجد بدعة، وهي من الأمور الحسنة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة، وإذا ناس يصلون في المسجد صلاة الضحى، فسألناه عن صلاتهم، فقال: "بدعة". ومما سبق يتضح أن هناك مسلكين: مسلَكًا إجماليًّا: وهو الذي ذهب إليه الإمام ابن رجب الحنبلي وغيره، وهو أن الأفعال التي يثاب المرء عليها ويشرع له فعلها -بعد تحقيق الأصول الشرعية والأدلة المرعية عند الأصوليين- لا تسمى بدعةً شرعًا وإن صدق عليها الاسم في اللغة، وهو يقصِد أنها لا تسمى بدعةً مذمومةً شرعًا، ومسلكًا تفصيليًّا: وهو ما ذكره الإمام العز بن عبد السلام وأوردناه تفصيلًا، والقاسم المشترك بين المسلكين أنه ليس كلُّ مُحدَث في العبادات أو المعاملات منهيًّا عنه؛ بل الأمور المحدثة تعتريها الأحكامُ التكليفيةُ بحسب ما تدل عليه الأصول الشرعية، وعليه يكون منها ما هو حسن موافق للشرع، ومنها ما هو قبيح مخالف للشرع، أمَّا الزعمُ بأنها محرمةٌ اتِّكاءً على تسميتها "بدعةً" عند بعض العلماء، فغيرُ سديدٍ؛ لأنه يسد باب الاجتهاد المعمول به المستقر بين العلماء، وهذا هو عين البدعة المذمومة التي جاء الشرع بالنهي عنها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) (لسان العرب 8/ 6، مادة: ب د ع). (2) (2/ 204، ط. مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة). (3) (2/ 394، ط. دار المعرفة، بيروت). (4) (2/ 781، ط. دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع). (5) حلية الأولياء (9/ 113)، مناقب الشافعي (1/ 468- 469). (6) إحياء علوم الدين (2/ 248). (7) الأذكار (ص: 382). (8) النهاية في غريب الحديث (1/ 106، ط. المكتبة العلمية، بيروت).
************************ المفهوم الثلاثون: مفهوم تفريق الأحكام
تعريفه: حقيقة تفريق الأحكام: أن يتنازع أصلان مختلفان فرعًا واحدًا، فيكون مترددًا بينهما؛ لثبوت مناطه في كل منهما، ولا يستطاع فك الجهة في التشابه، أو جعل الفرع يأخذ حكم أحد الأصلين؛ لشدة الاشتباه، وعدم ثبوت ترجيح أحدهما على الآخر، فحينئذ يلجأ إلى تفريق الأحكام، فيعطى الفرع أحكامًا في بعض الأحوال طبقًا لأحد الأصلين، بينما يعطى أحكامًا أخرى في غيرها من الأحوال طبقًا للأصل الآخر. وقد ورد ما يدل على ذلك المعنى في الحديث الشريف: من ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام، فقال سعد: هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهِد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه. وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله؛ ولد على فراش أبي من وليدته. فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى شبهه فرأى شبها بينًا بعتبة، فقال: «هو لك يا عبد، الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة» قالت: فلم ير سودة قط. ففي هذا الحديث اعتبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغلام أخًا لسودة في النسب، بينما أمرها أن تحتجب منه، فلو طردنا أحكام التحريم النسبي ما وجب عليها الاحتجاب منه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق الأحكام. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني(1): "واستدل به بعض المالكية على مشروعية الحكم بين حكمين، وهو: أن يأخذ الفرع شبهًا من أكثر من أصل فيعطى أحكامًا بعدد ذلك، وذلك أن الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة في النسب، والشبه يقتضي إلحاقه بعتبة، فأعطى الفرع حكمًا بين حكمين، فَرُوعِيَ الفراش في النسب، والشبهُ البين في الاحتجاب. قال: وإلحاقه بهما -ولو كان من وجه- أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه" اهـ. ومن الأدلة أيضا: ما ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد اعتبر الطواف صلاة، فاقتضى الطهارة وستر العورة، بينما أباح فيه الكلام، وهو يتنافى مع كونه صلاة بالمعنى الشرعي؛ فروى الترمذي والنسائي -واللفظ له- عن طاوس عن رجل أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: « الطواف بالبيت صلاة؛ فأقلوا من الكلام». قال ابن عبد الهادي: "معناه: أن الطواف كالصلاة من بعض الوجوه، ويشبه أن معناه: أن أجره كأجر الصلاة، كما جاء في خبر: «لا يزال أحدكم في صلاة ما انتظرها»، قال أهل الأصول: والمسمى الشرعي للّفظ أوضح من المسمى اللغوي، فيحمل عليه، فإن تعذر الشرعي حقيقة، فهل يرد إليه بتجوز؛ محافظة على الشرعي ما أمكن، أو هو مجمل؛ لتردده بين المجاز الشرعي والمسمى اللغوي، أو يحمل على اللغوي؛ تقديما للحقيقة على المجاز؟ أقوال، اختار الأكثر منها: الأول، ومثلوا بهذا الحديث، تعذر فيه مسمى الصلاة شرعًا، فيرد إليه بتجوز؛ بأن يقال: كالصلاة في اعتبار الطهارة ونحو النية، أو يحمل المسمى على اللغوي، وهو الدعاء بخير؛ لاشتمال الطواف عليه، فلا يعتبر فيه ما ذكر، أو هو مجمل؛ لتردده، فيه أقوال(2)" اهـ. ومن الأدلة أيضا: ما رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها»؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا قد حكم ببطلان العقد، وهو يقتضي إهدار ما يترتب عليه وعدم اعتباره، لكنه عقبه بما يقتضي اعتبار ثبوت المهر، وهو من آثار العقد الصحيح ولوازمه. وهناك فروع أخرى مذكورة في فقه الشافعية انتهجوا فيها ذات النهج، منها: اعتبار السادة الشافعية منع الصلاة إلى الحِجْر إذا لم يستقبل الكعبة، بينما يمنعون الطواف داخله، هو الأصح عندهم في المذهب. قال الإمام النووي(3): "ولو استقبل الحجر -بكسر الحاء- ولم يستقبل الكعبة فوجهان مشهوران حكاهما صاحب الحاوي والبحر وآخرون: ( أحدهما) تصح صلاته؛ لأنه من البيت للحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحجر من البيت» رواه مسلم، وفي رواية: «ستة أذرع من الحجر من البيت»، ولأنه لو طاف فيه لم يصح طوافه، وأصحهما بالاتفاق: لا تصح صلاته؛ لأن كونه من البيت مظنون غير مقطوع به" اهـ. فهنا لم يعتبر الشافعية ظنية كون الحجر من البيت في شأن الصلاة، واعتبروها في شأن الطواف، فمنعوا الطواف داخله؛ اعتبارًا لهذا الظن. ومنها: مسألة دخول جزء من البدن داخل الكعبة يبطل الصلاة، مع إباحتهم للمعتكف أن يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف، فهم تارة جعلوا خروج جزء من البدن من الحيز المفترض إيقاع العبادة فيه موجبًا لفسادها، وتارة جعلوه ليس موجبا لذلك، وذلك باختلاف نوع العبادة. قال الإمام الشافعي في "الأم"(4): "وكمال الطواف بالبيت: أن يطوف الرجل من وراء الحجر، فإن طاف فسلك الحجر لم يعتد بطوافه الذي سلك فيه الحجر، وإن طاف على جدار الحجر لم يعتد بذلك الطواف؛ لأنه لم يكمل الطواف بالبيت، وكان كل طواف طافه على شاذروان الكعبة أو في الحجر أو على جدار الحجر؛ كما لم يطف" اهـ. قال الخطيب الشربيني(5) في مغني المحتاج: "ويشترط أيضا خروج جميع بدنه –يعني: الطائف بالبيت- عن جميع البيت كما نبه على ذلك بقوله –يعني: النووي-: (ولو مشى على الشاذروان) وهو -بفتح الذال المعجمة- الخارج عن عرض جدار البيت مرتفعا عن وجه الأرض قدر ثلثي ذراع، تركته قريش لضيق النفقة (أو) أدخل جزءا من بدنه في جزء من البيت كأن (مس الجدار) الكائن (في موازاته) أي: الشاذروان، أو أدخل جزءا منه في هواء الشاذروان، أو هواء غيره من أجزاء البيت (أو دخل من إحدى فتحتي الحجر وخرج من) الفتحة (الأخرى) أو خلف منه قدر الذي من البيت وهو ستة أذرع واقتحم الجدار وخرج من الجانب الآخر؛ (لم يصح طوافه) في المسائل المذكورة. أما في غير الحجر فلقوله تعالى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾[الحج: 29]، وإنما يكون طائفًا به إذا كان خارجًا عنه، وإلا فهو طائف فيه. وأما الحجر: فلأنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما طاف خارجه، وقال: «خذوا عني مناسككم»، ولخبر مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الجَدْر (6) أمن البيت هو؟ قال: «نعم»، قلت: فما بالهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: «إن قومك قصرت بهم النفقة»، قلت: فما شأن بابه مرتفعًا؟ قال: «فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدار في البيت وأن ألصق بابه بالأرض؛ لفعلت»، وظاهر الخبر أن الحجر جميعه من البيت" اهـ بتصرف. وقال الخطيب الشربيني أيضا(7): "(ولا يضر) في تتابع الاعتكاف (إخراج بعض الأعضاء) من المسجد: كرأسه أو يده؛ لأنه لا يسمى خارجًا، ففي الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم كان يدني رأسه إلى عائشة فترجله، أي: تسرحه وهو معتكف في المسجد، ولو أخرج إحدى رجليه واعتمد عليهما لم يضر؛ لأن الأصل عدم الخروج، فإن أخرجهما واعتمد عليهما ضر وإن كان رأسه داخلا" اهـ. ومن الفروع أيضا: مسألة: تكليف الكافر بالفروع: قال الإمام النووي(8): "أما الكافر الأصلي: فاتفق أصحابنا في كتب الفروع على أنه لا يجب عليه الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها من فروع الإسلام، فأما في كتب الأصول فقال جمهورهم: هو مخاطب بالفروع كما هو مخاطب بأصل الإيمان، وقيل: لا يخاطب بالفروع. وقيل: يخاطب بالمنهي عنه كتحريم الزنا والسرقة والخمر والربا وأشباهها دون المأمور به كالصلاة، والصحيح الأول، وليس هو مخالفًا لقولهم في الفروع؛ لأن المراد هنا غير المراد هناك، فمرادهم في كتب الفروع أنهم لا يطالبون بها في الدنيا مع كفرهم، وإذا أسلم أحدهم لم يلزمه قضاء الماضي، ولم يتعرضوا لعقوبة الآخرة، ومرادهم في كتب الأصول أنهم يعذبون عليها في الآخرة زيادة على عذاب الكفر، فيعذبون عليها وعلى الكفر جميعًا لا على الكفر وحده، ولم يتعرضوا للمطالبة في الدنيا، فذكروا في الأصول حكم أحد الطرفين، وفي الفروع حكم الطرف الآخر، والله أعلم" اهـ. فبين الإمام النووي أن الجهة منفكة، فلا تعارض. ومن الفروع أيضا: مسألة: استلحاق الأب زوجة ابنه مجهولة النسب: قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري(9): "(فرع) تزوج امرأة مجهولة النسب، فاستلحقها أبوه، ثبت نسبها ولا ينفسخ النكاح، أي: إن لم يصدقه الزوج، حكاه المزني، ثم قال: وفيه وحشة، قال القاضي في فتاويه: وليس لنا من يطأ أخته في الإسلام إلا هذا، وقيس به ما لو تزوجت مجهول النسب فاستلحقه أبوها، ثبت نسبه، ولا ينفسخ النكاح إن لم يصدقه الزوج" اهـ. ومنها: مسألة تكليف السكران عند الشافعية، وأنه في كل أحكامه كالصاحي، إذا كان عاصيا بسكره، إلا في العبادات؛ ويستثنى منها الإسلام(10). ومنها: ما ورد في أحكام الخنثى؛ فقد قسمت أحكامه إلى ما يأخذ فيه حكم الأنثى، وفي بعضها ما يأخذ فيه حكم الذكر، وفي بعضها الثالث، وهو: ما وزع فيه الحكم، وفيه فروع منها: لحيته، لا يستحب له حلقها؛ لاحتمال أن تتبين ذكورته، فيتشوه. بينما يجب عليه في الوضوء غسل باطنها؛ لاحتمال كونه امرأة، كما جزم به الشيخان وغيرهما(11). ومنها: المبعَّض -وهو الذي بعضه رقيق وبعضه حر-؛ فإن له أحكامًا ألحق في بعضها بالأرقاء، وألحق في بعضها بالحر، وهناك ما وزع فيه الحكم، وفيه فروع؛ منها: في زكاة الفطر -حيث لا مهايأة(12)- فإن على كل منه ومن سيده نصف صاع(13). ومنها: ما ذكره الإمام السيوطي(14) في "الأشباه والنظائر" عند الكلام على قاعدة: (إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام)؛ قال: "لو وقف جزءًا -من أرض- مشاعًا مسجدًا: صح، ووجب القسمة، ولا يجوز قبل القسمة للجنب المكث في شيء من أجزائها، ولا الاعتكاف؛ تغليبًا للتحريم في الجانبين. ذكره ابن الصلاح في فتاويه" اهـ. وقال فيه أيضًا(15): "الطلاق الرجعي، هل يقطع النكاح أو لا؟ قولان، قال الرافعي: والتحقيق أنه لا يطلق ترجيح واحد منهما؛ لاختلاف الترجيح في فروعه... جزم بالأول في تحريم الوطء والاستمتاعات كلها، والنظر، والخلوة، ووجوب استبرائها لو كانت رقيقة واشتراها. وجزم بالثاني في الإرث، ولحوق الطلاق، وصحة الظهار والإيلاء واللعان، ووجوب النفقة" اهـ. ومنها ما ذكره في أحكام المتحيرة -وهي من نسيت عادتها قدرًا ووقتًا ولا تمييز لها-؛ حيث قال في "الأشباه والنظائر" أيضا(16): "يحرم عليها قراءة القرآن خارج الصلاة" اهـ. والخلاصة: أن "تفريق الأحكام" سبيل من سبل فك الاشتباه في الفرع المتردد بين أصلين يتنازعانه، فيعطى أحكامًا في بعض الفروع طبقا لأحد الأصلين، بينما يعطى أحكامًا أخرى في فروع غيرها طبقا للأصل الآخر، وقد دل على صحة هذا المسلك دليل الشرع، وتتابع الفقهاء على الأخذ به وإعماله عند وجود الداعي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) فتح الباري 12/38، ط. دار المعرفة. (2) بواسطة: فيض القدير للمناوي 4 /292، 293، ط. المكتبة التجارية الكبرى. (3) المجموع 3/95، ط. المنيرية. (4) الأم 2/193، ط. دار المعرفة. (5) مغني المحتاج 2/ 245، ط. دار الكتب العلمية. (6) أَي الْجِدَار الَّذِي فِي الْحجر. فتح الباري لابن حجر (1/ 97). (7) مغني المحتاج 2/200 . (8) "المجموع شرح المهذب" 3/5. (9) "أسنى المطالب" 3/149، ط. دار الكتاب الإسلامي. (10) انظر: الأحكام السلطانية للماوردي ص 285، ط. دار الكتب العلمية، الأشباه والنظائر للسيوطي ص237، ط. ط. عيسى البابي الحلبي. (11) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص266. (12) المهايأة: قسمة المنافع على التعاقب والتناوب. العناية شرح الهداية 8 / 378، الموسوعة الفقهية الكويتية (39/ 147). والمراد هنا: أن العبد المبعض يتحمل قسطًا من زكاة الفطر؛ حَيْثُ لَا مُهَايَأَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مالك بعضه، فَإِنْ كَانَتْ مُهَايَأَةٌ اخْتَصَّتْ الزكاة بِمَنْ وَقَعَ زَمَنَ وُجُوبِهَا فِي نَوْبَتِهِ. فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب (1/ 132). (13) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص255. (14) الأشباه والنظائر للسيوطي ص119. (15) الأشباه والنظائر للسيوطي ص192. (16) ص272.
*************************** المفهوم الحادي والثلاثون: مفهوم التوقف
المعنى اللغوي: قال في المعجم الوسيط: "تَوَقَّفَ عن كذا امتنع وكف، وعليه تثبت وفيه تمَّكث وانتظر([1]) (تَوَقَّفَ) عن الأمر أمسك عنه([2]) ، ويأتي التوقف في اللغة: بمعنى التلوم والتلبث والتمكث: التلبث". ويقال:توقف عن الأمر إذا أمسك عنه وامتنع وكف. وتوقف في الأمر تمكث وانتظر ولم يمض فيه رأيًا([3]). التعريف الاصطلاحي: التوقف هو عدم إبداء قول في المسألة الاجتهادية؛ لعدم ظهور وجه الصواب فيها للمجتهد([4]). حقيقة التوقف في الفتوى: تقوم العملية الإفتائية على عنصرين أساسيين هما: إدراك النص وإدراك الواقع. وقد يعرض للفقيه والمفتي عوارض تجعله يتوقف عن الفتوى؛ فلا يبدي فيها رأيًا ؛ إما لعدم معرفته بالنص أو الدليل، أو لاعتقاده بضعفه أو عدم حجيته، أو لاشتباهه عليه، أو لتعارض الأدلة في ذهنه بغير مرجِّح، وإما لعدم وضوح الواقع بتفاصيله المعقدة أحيانًا، أو لعوارض أخرى متعددة تمنعه من إبداء الرأي الفقهي فورًا. وقد يكون من هذه العوارض تحير الفقيه أو المفتي في إحدى مراحل الفتوى لا سيما مرحلتي التصوير والتكييف. فقد يكون الفرع الفقهي المستفتى عنه مترددًا بين أبواب متعددة من أبواب الفقه، فلا يستطيع المفتي أن يعزوه بسهولة إلى أحد هذه الأبواب تحديدًا؛ وهو ما يعرف بمرحلة التكييف، وقد تتضح علاقة الفرع ولكنها تكون مترددة بين بابين أو أكثر من الأبواب الفقهية، فيحتاج المفتي إلى المزيد من البحث لترجيح اتصال المسألة المبحوثة بأحد هذين البابين، وأثناء هذا البحث يتوقف المفتي للوصول إلى التكييف الصحيح. وقد يكون الفرع المبحوث من الفروع الجديدة التي هي من مستجدات العصر فلا يمكن عزوها إلى أبواب الفقه الموروث، وهنا يحتاج الفقيه أن يجتهد في هذه المسألة اجتهادًا جديدًا مستقلا ؛ مما يحوجه التوقف للقيام بالمزيد من البحث والتأمل. التوقف عن الفتوى إذا كان الجواب غير مفيد أو كان السائل متلاعبًا: ذكر الإمام الشاطبي في الموافقات عشرة مواضع يكون السؤال فيها مكروهًا؛ نذكر منها: أحدها: السؤال عما لا ينفع في الدين. والثاني: أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته؛ كما سأل الرجل عن الحج: أكل عام؟ والثالث: السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، قال -صلى الله عليه وسلم-:((وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تكلفوها رحمة من ربكم فاقبلوها))([5]). والرابع: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها. والخامس: أن يسأل عن علة الحكم، وهو من قبيل التعبدات التي لا يعقل لها معنى، أو السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة. والسادس: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق. والسابع: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي. والثامن: السؤال عن المتشابهات. هذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، يقاس عليها ما سواها، وليس النهي فيها واحدًا، بل فيها ما تشتد كراهيته، ومنها ما يخف، ومنها ما يحرم، ومنها ما يكون محل اجتهاد ... وقال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾([6]). الفرق بين التوقف وبين سكوت المفتي: من المفاهيم التي قد تتداخل مع مفهوم التوقف مفهوم "سكوت المفتي". والفرق بينهما أن التوقف قرار يأخذه الفقيه، ويعني أنه لا زال في حاجة إلى البحث. و"سكوت المفتي" أعم من ذلك فقد يكون توقفًا للبحث، وقد يكون امتناعًا عن الفتوى لعارض آخر كتلاعب المستفتي أو غيره. التوقف ضد التساهل في الفتوى: ذكر الفقهاء في آداب الفتوى أنه ينبغي للمفتي أن يتأمل في المسألة تأملا شافيًا، وإذا لم يعرف حكمها يتوقف حتى يتبين له الصواب. وليس له أن يتساهل فيها فيُقدم على الجواب بغير تثبُّت. قال ابن فرحون في تبصرته: "ولا يجوز التساهل في الفتوى، ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتى، وربما يكون التساهل بإسراعه وعدم تثبته، وقد يحمله على ذلك توهمه أن السرعة براعة والبطء عجز؛ ولأن يبطئ ولا يخطئ أجمل به من أن يَضِل ويُضِل"([7]). وقال الإمام النووي رحمه الله: "ينبغي أن يكون توقفه في المسألة السهلة كالصعبة ليعتاده"([8]). التوقف في السنة المشرفة: جاء في السنة المشرفة ما يدل على توقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الإجابة عن سؤال سائل لعدم علمه بجوابه، وهذا يدل على وجوب البحث والعلم قبل الإجابة عن السؤال، فعن ابن عمر ((أن رجلا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي البقاع شر؟ قال: لا أدري حتى أسأل جبريل، فسأل جبريل، فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء فقال: خير البقاع المساجد، وشرها الأسواق([9]). وفي السنة المشرفة أيضًا: ((عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما أدري أتـبّع كان لعينًا أم لا، وما أدري أذو القرنين كان نبيًّا أم لا، وما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا؟))([10]). وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وهذا محمول على توقفه -صلى الله عليه وسلم- فيما لم يوحَ إليه، وقد أعلمه الله تعالى بذلك بوحيه إليه. وعن ابن مسعود، قال: "عسى رجل أن يقول: إن الله أمر بكذا ونهى عن كذا، فيقول الله عز وجل له: كذبت، أو يقول: إن الله حرم كذا وأحل كذا، فيقول الله له: كذبت"([11]). التوقف من سنة السلف: روى الإمام النوويُّ عن السلف وفضلاء الخلف التوقف عن الفتيا في كثير من المسائل، كما نقل عن الأئمة الأربعة ومن بعدهم من الفقهاء أنهم توقفوا عن الإجابة في مسائل كثيرة. وقال ابن عابدين: "إنه تنبيه لكل مفت أن لا يستنكف من التوقف فيما لا وقوف له عليه؛ إذ المجازفة افتراء على الله تعالى بتحريم الحلال وضده"([12]). علاقة هذا المبدأ بمنظومة الإفتاء: التوقف حالة إفتائية تعتري المفتي، قد تطول وقد تقصر أثناء الفتوى يحتاج فيها إلى مزيد من البحث والتقصي للوصول إلى الحكم أو الفتوى، وقد يكون التوقف بناء على عدم العلم أو التأكد من الحكم وقد يكون من باب السياسة الشرعية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ([1]) المعجم الوسيط 2/ 1027. ([2]) المصباح المنير 2/ 669. ([3]) الموسوعة الفقهية الكويتية 14/ 176. ([4]) السابق. ([5]) سنن الدار قطني 5/ 538 حديث رقم 4814. ([6]) الموافقات 5/ 387. والآية من سورة الأنعام: 68. ([7]) مواهب الجليل في شرح مختصر خليل 1/ 32. ([8]) المجموع 1/ 48. ([9]) صحيح ابن حبان حديث رقم 1599،ص 4/ 476. ([10]) المستدرك على الصحيحين للحاكم (2/ 488) حديث رقم 3682 وفي موضع أخر للحاكم أيضا باللفظ متقاربة 2/ 17، حديث رقم 2174. وفي سنن أبي داود بألفاظ متقاربة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أدري أتبع لعين هو أم لا، وما أدري أعزير نبي هو أم لا)) حديث رقم 4674، 4/ 218. ([11]) المعجم الكبير للطبراني 9/ 204، حديث رقم 8995. ([12]) الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) 3/ 801
********************************** المفهوم الثاني والثلاثون: مفهوم الرفق بالمستفتي
المعنى اللغوي والاصطلاحي: الرِّفْقُ:بكسر الراء المشددة وسكون الفاء، اللطف ولين الجانب، ولطافة الفعل، وصاحبه رفيق، وهو ضد العنف، قال الإمام العضد: الرفق: حسن الانقياد لما يؤدي إلى الجميل([1]). الرفق مبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية: والرفق قيمة عظيمة من أبرز القيم التي تجلت بها الشريعة الإسلامية، وظهر هذا التجلي على مستويات الشريعة الإسلامية الثلاثة: العقائد والمعاملات والأخلاق. فمن مظاهر الرفق في العقيدة الإسلامية أن الله تعالى لم يكلف العبد أن يعتقد إلا بما يمكن له أن يتعقله وفي هذا احترام للعقل الإنساني ورِفْق به، ومن مظاهر الرفق في الأحكام والمعاملات أن الشريعة الإسلامية جاءت برفع الحرج عن المكلفين والتيسير عليهم في الأحكام التكليفية وعدم تكليفهم إلا بما يستطيعون؛ قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾([2])، وأما الأخلاق فإنها بنيت على الرفق، وروحها الرفق. عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان الفحش في شيء قط إلا شانه))([3]). عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم من رفق بأمتي فارفق به، ومن شق عليهم فشق عليه))([4])، وعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: استأذن رهط من اليهود على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: السام عليك، فقلت: بل عليكم السام واللعنة، فقال: يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، قلت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: قلت: وعليكم))([5]). وعن عبد الله بن مغفل، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله رفيق: يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف))([6]). وعن المقدام بن شريح، عن أبيه، قال: ((سألت عائشة عن البداوة، فقالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبدو إلى هذه التلاع، وإنه أراد البداوة مرة فأرسل إلي ناقة محرمة من إبل الصدقة، فقال لي: يا عائشة، أرفقي فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نزع من شيء قط إلا شانه))، قال ابن الصباح في حديثه: محرمة يعني لم تركب([7]). وعن جرير، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من يحرم الرفق يحرم الخير كله))([8]). وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن أبا هريرة، قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين))([9]). وعن أبي مسعود ((أن رجلا، قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبًا منه يومئذٍ، ثم قال: إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة))([10]). وكان معاذ يصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم يرجع إلى قومه فيؤمهم، ((فأخر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة العشاء، ثم يرجع معاذ يؤم قومه، فافتتح بسورة البقرة، فتنحى رجل وصلى ناحية ثم خرج، فقالوا: ما لك يا فلان؟ نافقت؟ قال: ما نافقت، ولآتين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلأُخْبِرَنَّه، قال: فذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، إن معاذًا يصلي معك ثم يرجع فيؤمّنا، وإنك أخَّرت العشاء البارحة، ثم جاء يؤمنا فافتتح بسورة البقرة، وإنما نحن أصحاب نواضح، وإنما نعمل بأيدينا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أفتَّان أنت يا معاذ؟ اقرأ بسورة كذا، وسورة كذا، فقلنا لعمرو: إن أبا الزبير يقول: سبح اسم ربك، والسماء والطارق؟ فقال: هو نحو هذا))([11]).
ولما كانت الشريعة الإسلامية آمرة بالرفق على هذه الجهة المذكورة، فإن الفقه والفتوى قامت على مفهوم الرفق، وكانت المدارسالفقهية المتعددة تتوخى تحقيق هذا المبدأ في تطبيقاتها. الأحكام الشرعية مبناها على الرفق: استفاضت الأدلة على كون الشريعة الإسلامية مبنية على الرفق في أحكامها الشرعية؛ فمنها ما ثبت من مشروعيَّة الرخص، كرخصة قصر الصلاة وجمعها للمسافر، والفطر للمريض، وتناول المحرَّمات في الاضطرار. ولو كان الشَّارع قاصدًا للمشقَّة في التَّكليف لما كان ثمّ ترخيص ولا تخفيف؛ ولأجل ذلك لم يجب شيء من الأحكام على الصبي لقصور البدن، وقصور العقل، ولا على المعتوه البالغ لقصور العقل. ولم يجب قضاء الصلاة على الحائض والنُّفساء، وانتفى الإثم في خطأ المجتهد، وكذا في النِّسيان والإكراه. الفرق بين الرفق والتساهل: وقد يخلط بعض الناس بين الرفق والتساهل في الدين، مع أن الفرق بينهما كبير؛ فإن الرفق هو من الدين بل روحه، أما التساهل فهو نوع من الخروج عن حدود الدين. ذكر ابن السمعاني والنووي أن التساهل نوعان: الأول: تتبع الرخص والشُّبه والحيل المكروهة والمحرَّمة. والثاني: أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام، ويأخذ بمبادئ النظر وأوائل الفكر، فهذا مُقصِّر في حق الاجتهاد، فلا يحل له أن يُفتيَ كذلك ما لم تتقدم معرفته بالمسؤول عنه([12]). قال الحطاب: من عُرف بالتساهل في الفتوى لم يجز أن يُستفتى، وربما يكون التساهل بإسراعه وعدم تثبته، وقد يحمله على ذلك توهمه أن السرعة براعة، والبطء عجز؛ ولأن يبطئ ولا يخطئ أجمل به من أن يَضِل ويُضِلّ([13]). وجاء في المنتهى وشرحه من كتب الحنابلة: "يحرم تساهل مفتٍ في الإفتاء، لئلا يقول على الله ما لا علم له به، ويحرم تقليد متساهل في الإفتاء لعدم الوثوق به، وقال مثل ذلك النووي"([14]). فظهر بذلك أن مناط الرفق إنما هو في الأخذ بالأحكام الفقهية الرفيقة بذاتها، والتساهل هو في التسرع أو اتباع الرخص والحيل المكروهة والمحرمة. وأما إذا صح قصده فأحتسب في تطلب حيلة لا شبهة فيها ولا يجر إلى مفسدة ليخلص بها المستفتي من ورطة يمين أو نحوها فذلك حسن جميل يشهد له قول الله تبارك وتعالى لأيوب صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا لما حلف ليضربن امرأته مئة: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ﴾([15])" ([16]). ومن الناس من يحسن له أن يأخذ بالأشدّ من الآراء الفقهية، وهذا التوجه ليس معيبًا في ذاته إذا اقتصر الشخص في ذلك على نفسه، أو كان ذلك من باب السياسة الشرعية لمن هو مقدِم على المعاصي([17]). وأما أن يُعمَّم هذا الحكم على سائر السائلين فيفتي بالأشد في كل أمر، فهذا هو ما يأباه مبدأ الرفق في الفتوى والدين، كل ذلك مع اعتبار أن كلا القولين له أدلة معتبرة عند جمهور العلماء. وقد اشتهر عند العلماء ما نسب إلى الإمام سفيان الثوري وغيره. قال سفيان الثوري: "إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد"([18]). مكانة الرفق في الفتوى والحاصل أن الرفق مكون عظيم من مكونات الإفتاء لا ينفصل عن الفتوى ولا تنفصل الفتوى عنه؛ فإن المفتى يكون أحرص ما يكون على تحقيق مبدأ الرفق في الفتوى مع المستفتي؛ ولذلك فإن معتمد دار الإفتاء إنما هو التخير من الفقه الإسلامي الوسيع؛ لتحقيق هذا المبدأ العظيم في ظل الضوابط المرعية والأصول الشرعية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ([1]) تاج العروس (25/ 346). ([2]) سورة البقرة: 286. ([3]) صحيح ابن حبان - (2/ 312) قال المحقق الشيخ شعيب إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير نوح بن حبيب، فقد روى له أبو داود والنسائي، وهو ثقة. وأخرجه عبد الرزاق "20145"، ومن طريقه البخاري في "الأدب المفرد" "601"، والترمذي "1974" في البر والصلة: باب ما جاء في الفحش والتفحش، وابن ماجه "4185" في الزهد: باب الحياء. ([4]) مسند أحمد ط: الرسالة (40/ 393) قال المحقق حديث صحيح، وهذا إسناد اختلف فيه على جعفر بن برقان: فرواه أحمد -كما في هذه الرواية- عن وكيع، عن جعفر بن برقان، عن عبد الله البهي، عن عائشة. وهو عند وكيع في "الزهد" (462) عن جعفر بن برقان، عن عبد الله المزني، عن عائشة. ورواه محمد بن ربيعة -كما في الرواية (26237)- عن جعفر بن برقان، قال: عن عبد الله المديني وغيره. وتابع محمد بن ربيعة أبو نعيم، كما عند إسحاق بن راهويه (1119). ([5]) صحيح البخاري (9/ 16) حديث رقم 6927. ([6]) سنن أبي داود (4/ 254). ([7]) سنن أبي داود (4/ 255). ([8]) صحيح مسلم (4/ 2003)، سنن أبي داود (4 / 255). ([9]) صحيح البخاري (1/ 54). ([10]) صحيح البخاري (1/ 142). ([11]) صحيح ابن خزيمة (3/ 51). ([12]) الموسوعة الفقهية الكويتية (32/ 36). ([13]) الموسوعة الفقهية الكويتية (14/ 179). ([14]) الموسوعة الفقهية الكويتية (32/ 36). ([15]) ص44. ([16]) أدب المفتي والمستفتي لعثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الشهرزوري أبو عمرو (ج1/ ص47). ([17]) السابق. ([18]) آداب الفتوى والمفتي والمستفتي ليحيى بن شرف النووي أبو زكريا - (ج1/ ص 38)، أدب المفتي والمستفتي لعثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الشهرزوري أبو عمرو (ج1/ ص47)، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي لأحمد بن حمدان النمري الحراني أبو عبد الله (ج1/ ص32).
---------------------------------------------------------------------
يُعدُّ فقه النوازل من أهمِّ أنواع الفقه؛ وذلك لعلاقته الأصيلة بالحوادث والمستجدات الواقعة، وبه تظهر مُكْنَة الفقيه وبراعتُه، كما تظهر به الصِّناعة الفقهية، فهو فن من فنون التدوين الفقهي، جنباً إلى جنب، كتدوين النصوص الفقهية وشروحها وحواشيها، وقبل أن نخوض في بيان المراد من فقه النوازل، نُحِبُّ أن نمهِّد له ببيان مفهوم الفقه لغة واصطلاحاً، فنقول:
الفقه لغة: هو مطلق الفهم، سواء أكان ظاهراً أم خفياً؛ ومنه قوله تعالى ـ حكاية عن قوم شعيب عليه السلام ـ (قَالُواْ يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ ) [هود:٩١ ]، وقوله تعالى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) [الإسراء: ٤٤،] ففي الآيتين ظاهرة على أنَّ الفقه المنفي فيهما هو الفهم مطلقاً.
وقيل: هو الفهم الدقيق بدليل قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُون): ٩٨. وأُجيب عن الاستدلال بالآيتين السابقتين بأن الفهم المنفي فيهما إنما هو الفهم الدقيق لأسرار دعوة سيدنا شعيب ـ عليه السلام ـ في الآية الأولى، والفهم الدقيق لأسرار تسبيح الكائنات لله ـ تعالى في علاه ـ في الآية الثانية، وليس المراد منها نفيُّ مطلق الفهم.
وقيل: الفقه: هو معرفة قصد المتكلم.
وقيل: الفقه: هو استخراج الغوامض والاطلاع عليها.
أما الفقه في الاصطلاح: (فهو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية).
وقد اشتمل هذا التعريف على بعض القيود والمعايير المحددة لمفهوم الفقه اصطلاحاً، تنظر في محالِّها من كتب الأصول[1].
بيان مفهوم النازلة لغةً واصطلاحاً:
ـ تطلق النازلة في اللغة: بمعنى الشِّدة من شدائد الدهر، فهي اسم فاعل مِن: نزل به ينزِل، إذا حَلَّ. تنزَّلَ الوصفُ منزلةَ الموصوف، فأصبح اسماً للشِّدة المذكورة، وتجمع على نوازل ونازلات.
ـ واصطلاحاً: (واقعة حقيقية تنزل بالناس يتجهون فيها إلى الفقهاء؛ بحثاً عن الحكم)[2].
فالنازلة من حيث التصنيف الفقهي، واقعة حقيقية تستلزم حكماً فقهياً، وليست من قبيل الأحكام الفقهية الافتراضية.
تعريف فقه النازلة:
ـ وبما أن النازلة تطلق في الاستعمال الفقهي: على الفتوى المتعلقة بهذه الوقائع، فإنه من الممكن تعريف النازلة الفقهية بأنها: (فتوى في واقعة حقيقية وقعت بالناس).
فالنوازل الفقهية إذاً من أنواع الفتاوى والأجوبة الفقهية وليست نمطاً مستقلاً عنه، وهو مصطلح كثر استعماله عند علماء السادة الحنفية من أهل المشرق، وصار يطلق عندهم على نفس إطلاقات الفتاوى والواقعات، ومثاله كتاب: "نوازل أبي الليث السمرقندي"، وقد استعمله ـ أيضاً ـ كثير من فقهاء الغرب الإسلاميِّ كمصطلحٍ رديفٍ للفتاوى والأجوبة الفقهية.
وبناءً عليه يظهر لنا جلياً وجهُ الصِّلة بين الفقه عموماً، وفقه النازلة على وجه الخصوص، من حيث إنَّ فقه النازلة يمثِّل جانباً من جوانب التنزيل والتطبيق فيه، وأنه شديدة الصلة به، إلَّا أنه ينماز بأسلوبه الخاص من حيث التدوين والتفريع، فهو يقوم على توثيق الأحكام بناءً على الوقائع والحوادث بعد نزولها.
علاقة النازلة الفقهية بالفتوى:
"الفتوى والإفتاء: لغة لفظتان قريبتان في المعنى جداً، الإبانة والإخبار، فالفتوى لغة: اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع: الفتاوى والفتاوي ـ بكسر الواو وفتحها ـ ويقال: أفتيته فتوى وفتيا إذا أجبته عن مسألته، والفتيا: تبيين المشكل من الأحكام ...، والفتوى في الاصطلاح: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه. وهذا يشمل السؤال في الوقائع وغيرها"[3].
وقد تقدَّم معنا أن النازلة: هي فتوى في واقعة حقيقية وقعت بالناس، فهي تمثِّل نوعاً من أنواع الفتاوى، غير أن مفهوم الفتاوى يدل على مطلَق الجواب لأيِّ استفتاءٍ سواء أكان لحدثٍ واقعٍ أم متوقَّعٍ. أمَّا النوازل فهي تمثِّل أجوبة لوقائع حقيقية؛ وبناءً عليه فإنه بإمكاننا القول: بأن العلاقة بينهما: هي العموم والخصوص المطلق، من حيث إنَّ كلَّ حكمٍ لنازلةٍ فتوى، ولا عكس.
وبهذا يظهر لنا أن البتَّ في قضايا النوازل الفقهية إنما يكون للمفتي ـ لا للفقيه بمعناه عند المتأخرين ـ حيث إنَّ وظيفتَه: هي تبيين مبهم حاصل في مسألة يراد بيان حكم الشرع فيها. أمَّا الفقيه فوظيفته أعمُّ من وظيفة المفتي؛ إذ هي: مطلق تبيين حكم الله تعالى من غير بحث عن الواقعة ولا ما يكتنفها من حوادث.
وإذا كان الحكَم في النوازل الفقهية هو المفتي وليس الفقيه، فكيف نفرق بينهما؟ فالجواب هو: أنَّ الفرق بينهما يكون ببيان مفهوم كلٍّ منهما، وببيان وظيفتهما:
فالفقيه في الاصطلاح: هو العالم بجملة غالبة ـ عرفاً ـ من الأحكام الشرعية، والمتهيء لمعرفتها بالنظر في الأدلة التفصيلية، والقرائن المحيطة بها.
قال العلَّامة ابن النجار الفتوحي في (شرح الكوكب المنير) 1/42: ("والفقيه": في اصطلاح أهل الشرع: (من عرف جملة غالبة) أي: كثيرة (منها) أي: من الأحكام الشرعية الفرعية (كذلك) أي: بالفعل، أو بالقوة القريبة من الفعل ـ وهي التهيؤ لمعرفتها ـ عن أدلتها التفصيلية. فلا يطلق الفقيه على محدِّث، ولا مفسّر، ولا متكلم، ولا نحوي، ونحوه.
وقيل: الفقيه: من له أهلية تامة، عرَف الحكم بها إذا شاء، مع معرفته جملاً كثيرةً من الأحكام الفرعية، وحضورها عنده بأدلتها الخاصة والعامة).
وأمَّا وظيفته: فهي تبيين حكم الله تعالى من غير بحث عن الواقعة ولا ما يكتنفها[4]. فهو يقـوم باســتنباط أحـكام الله تعالى من الأدلة التفصيلية، وتلك الأحكام تتحقق مقاصد الشريعة الكلية[5].
أمَّا المفتي: فهو مبيِّنٌ لحكم الشرع في مبهم حاصل في مسألةٍ ما، يراد بيان حكمه فيها.
وقال الإمام الزركشي: (المفتي: من كان عالماً بجميع الأحكام الشرعية بالقوة القريبة من الفعل).
ووظيفته: أنه لا يخبر المستفتي بحكم الشرع إلَّا بعد أن يقوم بتصوِّر المسألة المُستَفتى فيها تصوُّراً صحيحاً، وبعد أن يدرس واقعها دراسةً جيدة، ثم يُحسن تكييفها بالالتفات إلى الفقه وأبوابه؛ ليأخذ منها حكم الله تعالى في مثل هذه الواقعة بما يحقق مقاصد الشريعة.
وبهذا يتبيِّن لك أن عمل المفتي هو تطبيق الأحكام وتنزيلها على الواقع، وأن عمل الفقيه هو التأصيل لقواعدها، أو التفريع على أصولها المقرر[6].
هذا وقد تتداخل هذه الوظائف بينهما فيأخذ أحدهما من وظيفة الآخر، إلَّا أَّن الأصل هو ما ذكرناه لك.
وفي الختام يلزمنا التنبيه إلى أنَّ ما تقدَّم ذكره من مفهوم كلٍّ منهما، إنما يقوم على رأي المتأخرين في مفهوم المفتي والفقيه، أمَّا على رأي المتقدين فلا يطلق كلٌّ منهما إلَّا المجتهد المطلق. قال الشيخ الإمام محمد بخيت المطيعي نقلاً عن الإمام أبي بكر الرازي الجصَّاص ما نصُّه: ("قد استقرَّ رأي الأصوليين: أنَّ المفتي هو المجتهد، فأمَّا غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهدين فليس بمفتٍ. والواجب عليه إذا سُئل: أن يذكر قول المجتهد، كأبي حنيفة على سبيل الحكاية؛ فإنه لا يفتي إلَّا المجتهد وهو الفقيه". اهـ، فعرف أن ما يكون في زماننا ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي ... والفقاهة ملكة راسخة، وبصيرة كاملة، يتمكن بها من قامت به من الاطلاع على أسرار الشريعة اطِّلاعاً تاماً، ومن استنباط الأحكام الفرعية من أدلتها التفصيلية الشرعية، التي هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وصاحب تلك الملكة والبصيرة هو الفقيه المجتهد على الحقيقة، وفقه أبي حنيفة وسائر الأئمة وكبار الصاحبة والتابعين رضي الله تعالى عنهم من هذا القبيل. وأمَّا من يحفظ المسائل الفقهية مع أدلتها التفصيلية، ويعلم كيف أخذها المجتهد، لكن لم تحصل له تلك الملكة، فهو العالم بالفقه، بمعنى الصِّناعة والفنِّ المدوَّن بمسائله، وهو الغالب في علماء القرون الوسطى. وأمَّا الذي يحفظ المسائل الفقهية لا عن أدلتها، فليس بفقيه أصلاً، ولا يصدق عليه هذا الاسم أصلاً، وهذا هو غالب حال القرون المتأخرة، المشتغلين بممارسة الفنِّ المدوَّن، وهؤلاء لا يقبل منهم قول بعد كونه معلوم العدالة إلا بشرطين: الأول: أن يكون متمكناً من فهم كلام الفقيه الذي حفظ مسائل مذهبه، والثاني: أن يحكي عند الاستفتاء جميع الأقوال المختلفة للمجتهدين متى اختلفوا، وكان حافظاً لها. وقال ابن الهمام: وعندي أنه لا يجب عليه حكاية كلِّها، بل يكفيه أن يحكي قولاً منها؛ فإن المقلِّد له أن يقلِّد أيَّ مجتهدٍ شاء، فإذا ذكر قول واحد منهم فقلَّده المستفتي حصل المقصود، نعم لو حكى كلَّها فالأخذ بما يقع في قلبه أنه الصواب أولى؛ وإلَّا فالعامي لا عبرة بما بقع في قلبه من صواب الحكم وخطئه)[7]. انتهى وهو على طوله نفيس في تبيين المراد.
والله أعلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ـ ينظر: "نهاية السول" 1/8، للإمام الإسنوي
[2] ـ راجع ما كتبه الشيخ عبد الله بن بيَّه في كتابه "صناعة الفتوى" 26.
[3] ـ "صناعة الفتوى" 5، لشيخنا أ. د/ علي جمعة
[4] ـ ينظر: "صناعة الإفتاء":7، لشيخنا أ. د: علي جمعة
[5] ـ المرجع السابق: 10.
[6] ـ ينظر: المرجع السابق: 14
[7] ـ ينظر: رسالته: "في بيان الكتب التي يعوَّل عليها وبيان طبقات علماء المذهب الحنفي والرد ابن كمال باشا في المذهب الحنفي" 61.